رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حفظ القرآن.. وحفظ الأحاديث


حتى لا نبتعد عن المقال السابق الذى تحدثت فيه عن الدكتور الجليل سعد هلالى ومدرسته التى ترفع من قيمة العقل وتطلق له الحرية فى فهم النصوص الدينية دون أن يخضع لسلطان «كهنة الدين الإسلامى»، فإننى سأحاول أن أُعمل عقلى وأتحدث قليلا عن كيفية «نقل المسلمين الوحى» وعن أهمية الكتابة فى تدوين هذا الوحى، فكلنا يعلم أن الله تكفل بحفظ «الذكر» ومن أجل حفظ القرآن من الضياع أو التحريف أمر الله الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكتابة القرآن، لذلك كان هناك فريقٌ من الصحابة أطلق عليهم المسلمون اسم «كُتَّاب الوحى» ولكن لم يقل أحدٌ أبدا إن صلوات الله عليه وسلامه عيَّن مثلا فريقا آخر أخذ اسم «كُتَّاب الحديث»، أما كتبة القرآن فقد كتبوه وحفظوه، وكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يراجع معهم ما كتبوه.
نحن نعلم أن الدين مقدمٌ على الدنيا، هل فى ذلك شك؟، فإذا كان الله أمرنا بكتابة الديون التى بيننا، فكان من مستلزمات العقل أن يأمرنا الرسول بكتابة القرآن، وقد حدث، ولكنه نهى فى ذات الوقت عن كتابة ما يصدر منه من أقوال، هو القرآن وحده، وهذا الكلام ليس كلامى ولكنه كلام أبى سعيد الخدرى الذى دوَّنه «مسلم» فى صحيحه، حيث قال إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال «لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه». المحو المحو يا رسول الله؟! نعم المحو. أيأمر الرسول بمحو الوحى؟!. يَرَدُ على هذا السؤال علماء الحديث فيقولون: لا يا سادة إن الرسول أمر بمحو الحديث لمدة زمنية محددة، حتى لا يختلط الحديثُ بالقرآن، ثم يقولون لنا أيضا: لا يوجد فارق كبير بين القرآن والحديث فكلاهما وحى، ولكن القرآن جاء بلفظه ومعناه من عند الله، أما الحديث فالمعنى من عند الله واللفظ من عند الرسول، صلى الله عليه وسلم.
فإذا قلنا لهم سنوافقكم وسنقول معكم مثلما قلتم: الحديث وحىٌ والفرق بينه وبين القرآن أن معنى الحديث هو الموحى به واللفظ يكون بشريا من الرسول، ولن نعترض أبدًا على ما قاله العلماء من أن الحديث القدسى، وخذ بالك من القدسى هذه، هو الحديث الذى يضيفه الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى ربه ويقول فيه: «قال الله». وفى رأى جمهور من علماء الأمة أن الحديث القدسى كالقرآآآآآن!!، وخذ بالك من القرآن هذه، أى أن لفظه ومعناه من عند الله!!.
ولكن الحديث الشريف معناه فقط هو الذى من عند الله، ولكن الرسول يُعَبِّرَ عنه باللفظ الذى يراه!، فهو بذلك وحى، هذه هى العقيدة التى عليها الأمة، وهذا هو ما يدرسه أى طالب مبتدئ من طلاب علم الحديث، هل فى ذلك خلاف؟. الحمد لله لا يوجد أى خلاف، ولكى تستريح ضمائركم أقول إننى لا أختلف مع ما تعتقده الكثرة من أمتى، أوافقكم وأوافق العلماء على تعريفهم للحديث القدسى وللحديث الشريف، ولكن يستعصى على عقلى أن يفهم لماذا نهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن تدوين الحديث القدسى والحديث الشريف!!، ولا أفهم ما قاله الشافعى فى هذا الشأن ومعه علماء الأمة من أن الرسول خاف أن يختلط الحديث، قدسيه وشريفه، بالقرآن!!، أليس الحديث وحيًا يا علماء الأمة؟!، وأليس الوحى دينًا؟، هل تنكرون هذا؟، فهل الرسول ينهى عن تدوين الوحى الحديثى والقدسى، بل يأمر بمحو ما تمت كتابته فيضيع على الأمة جزءٌ من دينها؟.
لا أظننا سنسمع منهم إجابة شافية وافية، ولكنهم سيعيدون قولهم بأن الرسول نهى عن كتابة الحديث فترة من الزمن، إلى أن استقر القرآن فى القلوب ثم سمح بكتابة الحديث بعد ذلك؟!، وبالتالى يجب أن نسكت وأن نمتنع عن مناقشة السادة العلماء، أوه، لقد نسيت هذا من كثرة الجدل فلا تؤاخذونى، ولكن الذى خطر على بالى، كما قلت لكم، أن نهى الرسول عن تدوين الحديث فترة من الزمن أضاع على الأمة جزءا من دينها، فأنتم بذلك تتهمونه بأنه لم يبلغ الإسلام كاملا، كما أنكم بهذا تُكذبون قول الله سبحانه (اليوم أكملت لكم دينكم) وتتهمون الرسول بأنه لم يطع أمر الله الوارد فى قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته).
صحيح أن الرسول بمنطقكم انقطع عن تبليغ الرسالة فترة ثم عاد وبلغ الرسالة عندما سمح بكتابة الحديث، ولكن ما التصرف الذى فعله الرسول بعد السماح بالتدوين؟، هل عاد مرة أخرى وقال نفس الأحاديث التى قالها من قبل عندما كان ينهى عن التدوين ليتيح الفرصة للصحابة أن يكتبوها؟، وهل اختار مجموعة تُسمى «كُتاب الحديث»؟، ويا ترى يا هل ترى من هم الصحابة الذين كتبوا الأحاديث؟، وما الأحاديث التى كتبوها؟ أم أنها أصبحت من الوحى الضائع الذى لم يصل للمسلمين فيكون ديننا أصيب بالنقصان، وتكون الآية الكريمة «اليوم أكملت لكم دينكم» من الآيات المنسوخة وفقا لمنهج علماء النسخ؟!.
ولأننى لا أعرف فى هذا العلم فإننى سأستخدم التخمين، فأقول إنه يجب أن يكون أول من استجاب لكتابة الحديث هم أسيادنا أبوبكر وعمر وعثمان وعلى وسعد بن عبادة وسعد بى أبى وقاص، فهل ظنى صحيح يا علماء الحديث؟، وهل صحيح أن معظم الأحاديث نقلها الصحابة بالمعنى وليس باللفظ؟، وللعلم أنا طبعا ويقينا لا أنكر السنة ولا الأحاديث ولكننى أسأل فقط. ولأننى لم أسمع إجابة واضحة فسأقول إنه يبدو أن كبار الصحابة لم يسمعوا بما أمر به الرسول من وجوب كتابة الأحاديث بعد أن كان قد نهى عن كتابتها، لأن الأحاديث المنسوبة إليهم هى أقل من القليل رغم طول صحبتهم للرسول عن باقى الصحابة.
كما أن سيدنا عمر كان يضرب الصحابى الذى يروى الحديث، فلماذا كان يضربه فى حين أن الصحابى المضروب كان ينفذ أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكم من مرة ضرب فيها عمر أبا هريرة، بل وصل الأمر إلى أنه هدده بالنفى من المدينة، فهل كان سيدنا عمر يتآمر على الوحى ويريد إخفاء أحاديث الرسول عن المسلمين؟!. وقد تتعجب عندما تعلم أن عمر بن الخطاب كان يطلب من الصحابة الذاهبين إلى الشام ألا يُحدثوا الناس هناك إلا بالقرآن فقط، ومنعهم من مخاطبة المسلمين بحديث رسول الله، أما سيدنا أبوبكر فقد أحرق ما كان قد كتبه من حديث رسول الله، مستندًا فى ذلك إلى أن الرسول لم يأمر بتدوين الحديث.
ويجب أن نضيف معلومة صغيرة جدًا، وهى أن نقل الحديث عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يكن باللفظ ولكن كان بالمعنى، والنقل باللفظ كان نادرًا، فهكذا قال أبوسعيد الخدرى: «كنا نجلس إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث فما منا اثنان يؤديانه غير أن المعنى واحد»!. وأظننى أرى الدهشة التى ارتسمت على وجه الشُعبى وهو يحدث عبدالله بن عباس قائلا: إنك تحدثنا بالحديث اليوم، فإذا كان من الغد قلبته، أى غيرته!- يقصد أن ابن عباس يقول الحديث اليوم ثم يرويه غدًا بصيغة مختلفة- فامتعض ابن عباس وقال وهو غضبان: «أما ترضون أن نحفظ لكم معانى الحديث، حتى تسألونا عن سياقها»!. وليت الأمر اقتصر على واحد أو اثنين من الصحابة يروون الحديث بالمعنى، ولكن التابعين أيضا فعلوا ذلك على كثرتهم، فاسمع ما قاله ابن عون من أنه: «كان الحسن البصرى والنخعى والشعبى يحدثون بالحديث مرة هكذا ومرة هكذا»، ولأن الحديث فى هذا المقال قد طال لذلك لنا عودة إن شاء الله عز وجل.