رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الست صفية


-ارتدت كفنها وضفرت شعرها ونامت فى الحجرة المغطاة بورق الحائط الملىء بعصافير الجنة وعندما اقتربت منها ونظرتفى عينيها البلوريتين توقعت أن أرى الصورة التى أوصف بها

ورغم علاقاته المتعددة التى كان يسميها احتياجات ضرورية، فإن «صفية» ظلت فى الأماكن العصية على التفسير، فى منطقة هل حدث هذا فعلًا أم لا؟، وعندما يجلس أمام الفضائيات ويشاهد الجميلات اللاتى منحهن بمشرَطه جمالها، يجد أن نسيانه لها أمر عليه ألا يُتعب نفسه فى محاولته، فهى قادرة على اقتحام حياته وفرض نفسها ولو عن طريق الأخريات.
فى بداية شهرته كجراح تجميل، لم يكن متعمدًا تلبيس ملامحها لجميلاته، لكنه اختيار أول فتاة جاءته لإجراء جراحة تجميل، فبينما هو يمعن النظر فى وجهها لتحديد ما يحتاج من إزالة أو إضافة، أمسكت الفتاة بصورة صفية وقالت:
- أريد أن أكون شكل هذه.
وعندما تشاهدون الشّفاه المنتفخة، والخدود المستديرة تذكروا «صفية». ورغم ذلك لم تكن واحدة منهن «صفية».. الطبطبة على الظهر، اللمعة فى العينين، حرارة شفتيها على باطن كفه، مما يجعله يهمس لها إذا التقيا فى مناسبة عائلية:
- إنت لازم ساحرة لى.
وإذا آمنا بالسحر فإننا لن نحتار أو نتساءل لماذا يصدقها؟!، وهى التى ترفض الزواج منه، وكيف يوقن أن البنات فعلًا بناته؟!. وإذا كنتم لا تؤمنون مثلى بالسحر فهناك إجابة من ثلاثة احتمالات:
إن قلبه يصدق صفية.
إنها رغبة فى أن يكون له ظل على الأرض.
إنه ككل الرجال مُغفل كبير.
لكنها ظلت محتفظة بصلابة رأسها حتى النهاية. لم يكن أحد بقادر على إثنائها عن قرار اتخذته، حتى إنها رفضت بعد أن تأكدت إصابتها بالسرطان أن يتم استئصال صدرها الأيسر:
- يمكن أن ينتشر الورم فى جسمك كله.
- كله مكتوب.
تحملت ألمها، رفضت العلاج الكيماوى، وليلة موتها استندت إلى كتف واحدة من بناتها. استحمّت فى النهر، هذه الليلة كان الهواء لطيفًا والقمر منيرًا، لكنّ أحدًا لم يتلصص عليها وهى تستحم، فقد كانت فروع شجرة الصفصاف تنوح أكثر من المعتاد، كما كان الشباب مشغولين بالسهر فى دار إبراهيم أبومسلم، يشاهدون فيلم حمام «الملاطيلى» لشمس البارودى من جهاز الفيديو الذى عاد به من العراق.
ارتدت كفنها وضفرت شعرها ونامت فى الحجرة المغطاة بورق الحائط الملىء بعصافير الجنة، وعندما اقتربت منها ونظرت فى عينيها البلوريتين، توقعت أن أرى الصورة التى أوصف بها، وتتردد على الشفاه حتى صدقتها وصرت أخاف النظر فى عين من ألقاه، بحثت عن وجهى الصخرى الكالح، عن العين المطموسة فى وجهى، والعين الحية فى قفاى، عن رأسى الذى لو صبت عليه جميع البحار والأنهار ما وقعت منه قطرة على الأرض، عن أجنحتى الأربعة آلاف، عن العيون والألسن التى تملأ جسدى وتجعلنى أتخفى فى آلاف الأشكال حتى لا أرى حقيقتى التى أخشاها وأهرب منها. فى عينيها انمحت هذه الصور، ورأيتنى طائرًا أخضر مستكينًا، منكمشًا على نفسه، ولا أبالغ إذا قلت مكسور الجناح، فأدركت أنها تتوق لى، وأنها لا تهابنى بل تشفق علىّ.
دفنت «صفية» فى حديقة المسجد الذى بناه «يحيى» على النيل مباشرة، ومازال قبرها مجاورًا لمكتبة الجامع.
وربما يكون هذا حدث لواحد من الأسباب الثلاثة:
أن عين النساء المخصصة لعائلتها كانت قد استقبلت زائرة منذ أقل من أسبوعين بما يمنع فتحها قبل ستة أشهر.
أن «يحيا» أراد أن تدفن فى أرضه، وهى التى رفضت أن تعيش فى بيته.
أن «صفية» من أولياء الله الصالحين.
ويبدو أن أهالى البلدة، وخاصة النساء، يرجحون الاحتمال الأخير، ويتهامسون بأن أمنيتها تحققت وهى التى كانت تكره الذهاب للمقابر وتقول إنها مزدحمة وخانقة.. يا سلام لو الواحدة تدفن فى الوسع والبراح.
ورغم دعوة أعضاء جماعة «أنصار السنة» أهالى البلدة إلى مقاطعة هذا الجامع، فإن البلدة هجرته قليلًا، وعادت إليه لمشاهدة موكيته الأخضر، والحصول على جوائز مسابقات حفظ القرآن الكريم، ولا يخلو الأمر من امرأة أو شابة توقد شمعة وتضعها على القبر الذى نَمت على شاهده شجيرات «الجهنمية» بألوانها البيضاء والحمراء والبنفسجية. وعلى عكس ما تتوقعون وما توقع أهل البلدة لم يظهر عفريت لصفية أو حتى شبح يجذب الرجال إلى قاع النهر الذى تحب، فصفية لم تكن بحاجة إلى الطواف ليلًا فبعد تسعة أشهر من وفاتها، استقبلت البلدة عددًا كبيرًا من الصفيات واللاتى ولدتهن أمهاتهن بعد أن استحممن بماء غسلها».
من رواية «استقالة ملك الموت».