رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كفرٌ.. أول القصيدة


لم يعد لى من رهان فى الحياة، أُنافح من أجله، ولا مآرب شخصية أو طموحات تجاوزها العمر بالضرورة أسعى لتحقيقها، فقد باتت أيامى خلفى.. كل ما يعنينى، هو أن تظل المهنة التى أنفقت فيها أكثر من أربعين عامًا من عمرى، منتصبة القامة، عزيزة المقام.. أنافح من أجل وطن، يحتاج صحوة إعلامية، تعبر عن طموحه، وتعكس واقعه، تصدح بما فيه، مُرًا وحلوًا، فنحن إن فقدنا صوتنا، بُحت حناجرنا، وصرنا كالزاعق فى التيه، لا يسمعه أحد، ولا يلتفت إليه إنسان.
لا أمَل من الحديث مرارًا، عن حلمى بإعلام قوى، وصحافة عفية، وقد صرنا على شفا حفرة من نار، ستحرق الأخضر واليابس، إن لم نستفق من غفلة الأيام، التى أدخلنا فيها مجموعة من الهواة، شاءت الأيام الغُبر، أن يتولوا شأن الإعلام فى مصر.. ليس من أجلى، بل من حق البلد أولًا، وانتصارًا لجيل من الشباب، ضمن كتيبة هذه المنظومة الإعلامية، بدأ الشارع يكون مأوى لبعضهم، والبقية تنتظر.
كان هذا بعض ردى، على من سألنى: لماذا تواصل الكتابة عن أوضاع الصحافة، وإشكالية المنظومة الإعلامية فى مصر؟.. وهو حديث أُعلن أننى لن أتوانى عن تناوله، ما دام الحال مقلوبًا، وساكنو الدار يصرون على أن يقلبوا الهرم على رأسه، وقد بدا أول القصيدة كفرًا، بعد ما تم الإعلان عنه، من ترشيحات نقابة الصحفيين لمن سيتم الاختيار من بينهم، أعضاءً فى الهيئة الوطنية للصحافة، تلك التى جاءت لتُبرهن أننا، ورغم المأساة التى تعانيها المؤسسات الصحفية القومية، لم نبرح مكاننا فى ثقافة الاختيار التى قامت وما زالت على أسس ليس من بينها الخبرة والدراية، والعلم والمعرفة، ولا القدرة على تحديد الداء ووصف الدواء الناجع، بل ما زلنا نواصل نفس ما رفضناه فى المجلس الأعلى للصحافة، غير المأسوف على رحيله، والذى منه بدأت المأساة، وابتدأت مع تشكيلته الأخيرة، قبل الانفضاض والتحول عنه، رحلة انهيار صاحبة الجلالة، حتى سقط عنها تاجها، وداسه أراذل الناس.
وراحت المهنة التى قادت الرأى أزمانًا طويلة، وشكلت الوعى القومى المصرى، بمن كان فيها، من أساطين الصحفيين وأصحاب الرأى والقلم، راحت تتكفف المسئولين، يعطونها قدر ما يسمحون به، لتقتات على حسناتهم، أفواه لم تعد مؤسساتهم قادرة على تدبير أقواتهم، لأن من تولوا أمرها كانوا على غير قدر المسئولية، ولم يفهموا من أمرها، إلا ما يملأ جيوبهم التى خرجوا بها من مناصبهم، مُتخمة بأموال، من دم الغلابة، وللأسف لم يكن هناك من يُحاسب.. وأرانى، مرة أخرى، أشاهد إرهاصات المشهد تتكرر ثانية، إن لم ينتبه المسئولون، وتتنبه الأجهزة الرقابية، وتقول كلمتها، بأمانة، فى بعض من تم ترشيحهم للهيئة الوطنية للصحافة، قبل أن تقع الفأس فى الرأس.
أحكى لكم عن واحد ممن تولى أمر مؤسسة صحفية لما يزيد على ثلاث سنوات ونصف السنة، ركبت المؤسسة، فى عهده الميمون، صاروخًا نحو الانهيار، بالرغم من مساندة الدولة لمؤسسته، خلال تلك المدة، بما يزيد على ثلاثمائة وخمسين مليون جنيه، لم ير لها أحد أثرًا، لا فى تطوير المؤسسة وتحديث أدواتها الإنتاجية، ولا فى طبيعة ما يصدر عنها من مطبوعات، التى شهدت أرقام توزيعها تدنيًا مُخلًا.. سأله زميل: «لماذا تراجعت عن اتفاقك مع فلان، بشأن مشاركتك له فى إنشاء قناة فضائية؟».. رد قائلًا: «ومن يضمن لى أنه لن يكون مزقوق علىّ، ليعرف أنا عندى فلوس ولا لأ.. إنت عاوزنى أفتح على نفسى أبواب جهنم، ويسألونى: منين جبت الفلوس دى؟».. وكان لهذا المسئول مدير يتولى الأمور المالية فى مؤسسته، اعترف بعض رجال الجهاز المركزى للمحاسبات بأنه أقدر من الشيطان على إخفاء مخالفاته، وإكسابها الطابع القانونى، وكله بالأوراق!.. فهل بعد ذلك نثق برجل أهال التراب على مؤسسته، وتجرأ على أموالها، وألقى بها فى غياهب الجُب، ونتوسم فيه أن يكون ضمن ثلة من الناس، موكول لهم أمر إصلاح حال المؤسسات الصحفية القومية؟.. هل يمكن لفاقد الشىء أن يُعطيه؟.
يا سادة.. إذا كان مجلس نقابة الصحفيين، الممثل لجموع الصحفيين الذى تم انتخاب أعضائه بجمعية عمومية شرعية منحتهم الثقة فى أن يكونوا نوابًا عنهم، فيما يصلح شأن المهنة والعاملين بها، إذا كان هؤلاء لا يعرفون كثيرًا عن بعض من انتخبوهم، وغلبت على بعضهم أهواء الصداقة أو مقتضيات التوصية والمجاملة، أقول فرضًا بذلك.. فلا أقل من أن تدلو الجهات الرقابية بدلوها، فى كل شخص تم اختياره لمنصب، هو من صميم مستقبل مهنة الصحافة والعاملين بها، ومرهون به حياة أو موت منظومة، لم تعد تملك الوقت للتجريب، أو تعد إمكانياتها تتسع لطموحات من يسعى إلى منصب، يزيد به رصيدًا من وظائفه، أو يضيف بعوائده، أموالًا إلى أمواله.
وغير خافٍ، على أهل الاختصاص فى الجهات التى أقصدها، أن تكتفى بالقول بنزاهة فلان من عدمها وفقط، بل الأهم بيان ماذا أضاف لمؤسسته، وما الذى أخفق فيه، يوم أن تولى أمرها وغادرها وهى خرابة ينعق فيها البوم، وأدخل الدولة فى متاهة دعم هذه المؤسسة أو غيرها، حتى لا تقع صريعة الإفلاس، التى أوصلها إليه مثل هذا النوع من البشر، فالعبقرية لا تأتى بغتة، ومن فشل مرة فحرى به أن يلبس «بيجامته» ويجلس على أريكة منزله.. إذا لم أقل بضرورة محاسبته على ما كان منه فى السابق، على الأقل يكون درسًا يستفيد منه بعض من سيأتون، على رأى المثل، «اضرب المربوط، يخاف السايب»، وحتى لا نؤسس لمبدأ «من أمِنَ العقاب أساء الأدب».
وبعد.. فقد قلت ذات مرة، ضمن ما قلته مرات: علينا حسن اختيار من سيوكل إليهم مصير الصحافة فى مصر، وأرجو أن تستفيد الهيئة الوطنية للصحافة من أخطاء سلفها، المجلس الأعلى للصحافة، وأن تعمل على ما يفك اشتباك المؤسسات الصحفية القومية مع مشاكل ماضيها، وتنظر للغد، نظرة الفاهم لأبعاد الكارثة، الحصيف فى تفادى سهامها القاتلة، وإذا كانت الدولة مستمرة فى مساندتها هذه المؤسسات اليوم، فربما لا تقدر على ذلك غدًا.. وإذا كان علينا الإبقاء على الصحافة الورقية، بدلًا من الرثاء عليها، وبالتالى استمرار مؤسساتنا القومية فى أداء رسالتها، وتحقيق مستقبل آمن للعاملين فيها، فعلينا أن نسأل أنفسنا: ما الذى يجبر القارئ على دفع مقابل مادى من أجل شراء صحيفة؟.
إذا استطعنا الإجابة عن السؤال، بمهنية واقتدار، فإن ذلك سيكون مؤشرًا على أنه يمكننا السير فى الاتجاه الصحيح، وأن الغد ستشرق شمسه، والصحافة المصرية ما زالت على قيد الحياة.