رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحجاج بن يوسف الثقفى.. رجل الدولة الأول

محمود خليل
محمود خليل

- شاهد الحجاج قاضيًا عادلًا فوعد بقتله وقال: «إن هذا وأمثاله يحدثون الناس عن رحمة أبى بكر وعدل عمر فيحرضون الرعية على الحاكم»
- لم يتردد فى التنكيل بكل من تسول له نفسه معارضة الخليفة أو الخروج عن دائرة طاعته
- قدَّم نفسه لـ«أهل العراق»: «إن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدنى أمرّها عودًا وأصلّها مغمزًا فوجهنى إليكم»


قبل غيره من المسلمين كان الحجاج بن يوسف الثقفى أسبق إلى استيعاب مفهوم الدولة ومعنى رجل الدولة، ذلك ما أهمله الكثير من الباحثين، الذين توقفوا أمام شخصيته. كان «الحجاج» يوصف بـ«المبير» أى المهلك، وهو وصف توقف أمامه الكثيرون دون أن يربطوا بين أدائه «المستبد والطاغى والدموى» وإيمانه العميق بالدولة وبكونه مسئولًا داخل الدولة الأموية. وقد أسدى الرجل لهذه الدولة خدمات جليلة، وكان عنصرًا أساسيًا من عناصر استمراريتها وتثبيت ملكها طوال الفترة التى خدمها فيها. كان واليًا على مكة والمدينة والطائف ثم اليمن ثم العراق، وكلها بؤر عاشت فترات تمرد على سلطان الأمويين فى الشام، تمكن «سيف الحجاج» من إخمادها، مستخدمًا أعلى درجات العنف مع الخصوم. نجح فى إخماد فتنة عبدالله بن الزبير بمكة وهدم الكعبة فوق رأسه، واستطاع قهر متمردى العراق، الذين أبوا الطاعة لأهل الشام. عاش الحجاج أميرًا لجيوش الدولة الأموية، وعصا التأديب التى وظفها الأمويون ضد خصومهم السياسيين.
كان الحجاج فصيح اللسان عذب اللغة، حافظًا للقرآن الكريم ومعلمًا له، ورغم ما اشتهر به من قسوة وترخص فى إهلاك النفوس وإخراس المعارضين، إلا أنه كان عميق الإيمان بما يفعل، وينطلق فى مواقفه وقراراته من وعى خاص بالقرآن الكريم وبفهم شخصى لمعانى آياته الكريمة، وغير أنه كان حافظًا للقرآن حريصًا على تلاوته كل يوم، تشهد تجربته على التزامه بأداء العبادات، وولعه بالحج إلى بيت الله الحرام. وكما كان أبوه طبيبًا للجسوم، كان الحجاج طبيبًا للنفوس المتمردة على «الدولة»، تلك الكلمة التى عاش «الحجاج» مؤمنا بها ومدافعًا عنها وخادمًا لها، بعد أن أصبح «أمير الجيوش»، ولم يلهه إيمانه الخاص بالدولة عن مقتضيات إيمانه العميق بالدين.

عندما عاتبه الخليفة بسبب حرقه عددًا من المتمردين داخل خيمتهم رد عليه: «إن يدى يدك»
كان «الحجاج» شخصية فريدة، على الأقل فى عصره، لأنه ببساطة سبق العصر الذى عاش فيه، والذى لم يكن مفهوم رجل الدولة قد تبلور فيه بالمعنى الذى نعرفه اليوم. رجل الدولة شخص يمتلك القدرة على تحمل المسئولية، ولديه الأدوات التى تمكنه من النهوض بأمانتها، بإخلاص كامل للحاكم، حتى ولو جاء ذلك على حساب نفر من الرعية. فالأهم من وجهة نظر رجل الدولة هو الحفاظ على الدولة نفسها، ولا فارق فى هذه الحال بين الدولة ومن يحكمها، فكلاهما وجهان لعملة واحدة فى عرف «الحجاج». يشهد على ذلك مشاهدات عديدة فى حياة هذه الشخصية، دعونا نتوقف أمام اثنتين منها.
من المعلوم أن الخليفة الأموى عبدالملك بن مروان ولى «الحجاج» إمارة الجيش، وقد أبلى الأخير بلاءا حسنا فى القيام بالمهمة الموكلة إليه، فأدّب أعداء الدولة، وقهر كل من تمرد على الخليفة ونابذه أو ناجزه، وتمكن من ضم العديد من الأراضى للمُلك الأموى. ونجاح «الحجاج» فى أداء المهمة جاء نتيجة لأدائه الحاسم فى التعامل مع جنده، وقناعته بأنه والخليفة صنوان، وأن الخليفة ولاه هذا المنصب ليقوم بمهمته بلا هوادة. يشهد على ذلك تلك الواقعة الملفتة التى يذكرها «ابن كثير» فى كتابه «البداية والنهاية»، ويقول فيها: «ولى عبدالملك الحجاج أمر الجيش فكان لا يتأخر أحد فى النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون، فضربهم وطوف بهم وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبدالملك، فقال للحجاج: لم صنعت هذا؟!. فقال: لم أفعله إنما فعله أنت!. فإن يدى يدك وسوطى سوطك، وما ضرك إذا أعطيت روحا فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرنى فى الذى وليتنى، ففعل الخليفة ذلك».
تدلل هذه الواقعة على عمق فهم الحجاج لمعنى رجل الدولة، فقد رأى نفسه –وقد ولاه الخليفة أمر الجيش- أنه عصا الدولة، وأداتها فى تنفيذ المهام، لذا كان من الطبيعى أن يكون قوى الشكيمة مع المتمردين على الدولة. وعندما تعجب الخليفة من أسلوب تعامله مع «روح بن زنباع»، داهمه الحجاج بإجابة مبهرة، فقال له أنت الذى فعلت، وليس أنا، لأنه أدرك أن يده ببساطة هى يد الخليفة، وسوطه هو سوط الخليفة، وبالتالى فعلى الأخير ألا يلومه، ونبهه إلى أنه إذا فعل وكسره أمام جنده، فإنه سيخسر كثيرًا. وأدرك عبدالملك مغزى ما قال الحجاج، فأخذ برأيه.
رجل الدولة لا يعرف التهاون مع أى خطر، حتى ولو كان غير مباشر، لأنه يؤدى بقناعة أن عظيم النار من مستصغر الشرر، وأن الواجب عليه أن يقضى على الشرارة الصغيرة قبل أن تستفحل، فتصبح نارًا عظيمة تستعصى على من يطفئها. يحكى «صاحب البداية والنهاية» أن الحجاج كان مع أبيه بمصر فى جامعها، فاجتاز بهما سليم بن عنز- قاضى مصر- فنهض إليه أبوالحجاج فسلم عليه، وقال له: إنى ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده؟. قال: نعم.. تسأله أن يعزلنى عن القضاء!. فقال سبحان الله والله لا أعلم قاضيا اليوم خيرا منك!، ثم رجع إلى ابنه الحجاج، فقال له ابنه: يا أبتاه أتقوم إلى الرجل وأنت ثقفى؟. فقال له: يا بنى والله إنى لأحسب أن الناس يُرحمون بهذا وأمثاله، فقال الحجاج: والله ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله. فقال: ولم يا بنى؟. قال: لأن هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم فيحدثونهم عن سيرة أبى بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين، ولا يرونها شيئا عند سيرتهما، فيخلعونه ويخرجون عليه ويبغضونه ولا يرون طاعته، والله لو خلص لى من الأمر شىء لأضربن عنق هذا وأمثاله. هكذا قولًا واحدًا!.
لم يكن «الحجاج» عادلًا بمقاييس عصره، ولا بمقاييس المؤرخين المتأخرين، فهو فى نظر الجميع مستبد، واستبداد الحجاج وقسوته أمر لا مراء فيه، فقد كان الرجل كذلك وأكثر، فأزهق الأرواح، وجلد الظهور، وضرب الأبشار، واستحل حرمات مخالفيه، ولم يتردد فى التنكيل بكل من تسول له نفسه معارضة الخليفة، أو الخروج عن دائرة طاعته، كأمير لجيوش الخلافة. كان الحجاج كذلك وأكثر، والرجل كان أول من يصف نفسه بالاستبداد. فهو الذى قال وهو يقدم نفسه إلى أهل العراق: «إن أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان نثر كنانته، ثم عجم عيدانها عودا عودا، فوجدنى أمرّها عودا وأصلبها مغمزا، فوجهنى إليكم». الاستبداد لا يصنع قيادة صالحة بحال من الأحوال، لكنه قد يقدم قيادة ناجحة قادرة على تحقيق أهدافها، خصوصًا إذا أدركت بشكل جيد الوسائل التى تعينها على تحقيق الأهداف، والأهم من ذلك أن تكون متصالحة مع نفسها، وواعية بالواقع من حولها، فلا تكذب ولا تراوغ، وتتعامل مع الآخرين بلغة وأفعال صريحة، كما كان يفعل «الحجاج».

الحسن البصرى اعتبره سيفًا من سيوف النقمة جاء ليعاقب المسلمين.. أو بلاء وعلى الأمة أن تقابله بالصبر
العدل هو الواقع المثالى ولا شك، لكن هل بمقدور كل قوى أن يكون عادلًا؟، ربما شهد التاريخ استثناءات بشرية من هذا النوع، لكن هذا الاستثناء يؤكد قاعدة أن القوى أشد جنوحًا إلى الاستبداد، وحتى عندما يمارس العدل فإنه يمارسه بطريقته الخاصة، أو بعبارة أخرى ينفذ ما يراه هو عدلًا، بغض النظر عن رؤية الآخرين له. لأن الاستبداد يعلّم صاحبه ألا ينشغل كثيرًا بأمر الآخرين، وقد يرى البعض فى المستبد ما رآه الحسن البصرى– وهو واحد من كبار فقهاء المسلمين- فى «الحجاج». يحكى أن العلماء فزعوا إلى الحسن البصرى وقالوا له: ماذا تفعل.. وأنت ترى الحجاج يسفك دماء المسلمين دون رحمة أو شفقة، ويقتل أعداءه دون قضاء أو محاكمة، وينفق ثروات المسلمين فيما يغضب الله؟. فقال لهم: لا تقاتلوا إلا إذا أعلن الكفر بالله، وأنكر أصلًا من أصول الدين، وإن تكن أفعاله الآن عقوبة من الله، فما أنتم برادى عقوبة الله بأسيافكم. وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين».
استبداد الحجاج من وجهة نظر «البصرى»، أحد أمرين، فإما أن يكون عقوبة من الله، ليس لها من رد، أو أن يكون بلاء يستوجب الصبر. حالة واحدة رأى «البصرى» ضرورة الخروج على «الحجاج» فيها، وهى حالة الكفر أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة، ومن المعروف تاريخيًا أن الحجاج كان شديد الالتزام فى هذا الجانب، وقد سمى «الحجاج» لكثرة حجه إلى بيت الله. كان الحسن البصرى مثل غيره من العلماء، لا يرون مندوحة فى استبداد القيادة، طالما لم تقترب من أمر الدين، وكانوا يرون فى أمثال «الحجاج» سيفًا من سيوف النقمة الإلهية لمعاقبة البشر على جرائرهم من ناحية، وأداة لازمة لتحقيق الاستقرار من ناحية أخرى، إلى الحد الذى رأوا أن الخروج على هذا الصنف من القيادات هو جوهر الفتنة، لأن ما يترتب على الخروج عليها من إراقة دماء وإزهاق للأرواح أشد خطرًا من النتائج التى تترتب على طاعتها مع استبدادها، ولأن المجتمعات العربية بطبيعتها أجنح إلى الاستقرار وأرضى به، ولا تحب التوتر، ولا تحتمل المشكلات، ولا تمتاز بالنفس الطويل، كان من الطبيعى أن تكون مهيأة الأوضاع والظروف لتقبل فكرة الاستبداد، حتى لو أنكرته بلسانها وآثرت عليه العدل، فلا يوجد عاقل يختار الاستبداد، إذا خير بينه وبين العدل، لكنها فى داخلها ترى أن الاستبداد هو الوسيلة المثلى لتحقيق الاستقرار حتى ولو جاء بسيف مثل سيف «الحجاج»!.
وللإنصاف علينا أن نعترف أن أهواء المؤرخين، ومواقفهم من حكم بنى أمية انعكست بصورة أو بأخرى على نظرتهم إلى رجال دولتهم، وأخطرهم «الحجاج»، فقد أسدى هذا القائد إلى الدولة الأموية العديد من الخدمات، وكان له أدوار شديدة المحورية والأهمية فى الحفاظ عليها. لقد اعتبر بعض الكتاب والمؤرخين «الحجاج» رمزًا للقيادة المتسلطة الديكتاتورية، ربما كان معهم بعض الحق فى ذلك، طبقًا للمعايير التى يقيسون عليها، لكن يبقى أنهم نسوا فى غمرة غضبهم على هذه الشخصية الفريدة، ما تفرضه الكتابة التاريخية من موضوعية فى تناول الأحداث والأشخاص، ونسوا قبل هذا وذاك أن التاريخ سمى للأجيال المتتالية مستبدين كثرا، لم يكن لأى منهم قدرات أو ملكات «الحجاج».
يكفى فى هذا السياق أن نشير إلى ما كان يتمتع به «رجل السيف» من بلاغة لفظية، وقدرة على استنبات الحجة من أضلع المستحيل. إليك نموذج على ذلك يشير صاحب البداية والنهاية إلى أنه «لما قتل عبدالله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فخطب الحجّاج بن يوسف الثقفى الناس فقال: أيها الناس إن عبدالله بن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب فى الخلافة ونازعها أهلها، وألحد فى الحرم، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان فى الجنة وهى أشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التى نهى عنها أخرجه الله من الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله».
المتأمل لهذه الخطبة يدرك على الفور أن الحجاج الذى سحق جماجم خصوم الدولة الأموية بسيفه، كان يتمتع أيضًا بقدرة خاصة على سحق عقول مستمعيه، بكفاءته فى الإقناع. استلهم الحجاج مشهد طرد آدم- عليه السلام- من الجنة، وهو يبرر الأمر للغاضبين من قتله عبدالله بن الزبير فى جوف الكعبة فى مكة.. البلد الحرام. فبدأ كلامه بامتداح خصمه والإشادة به، ووصفه بأنه كان واحدًا من خيار الأمة، إلى أن نازع عبدالملك بن مروان أمر الحكم، ورنا بعينيه إلى كرسى الخلافة، هنالك خرج من مرتبة «الخيرية» فى نظر الحجاج إلى دائرة الشر المستطير، ولم يكن أمامه، كأحد الرجال المسئولين عن حماية الدولة، سوى التحرك ضده، وقد فعلها، فقاتله، حتى إذا أوى إلى الكعبة ليختبئ فيها من خيل الحجاج ورجله، قام بهدها فوق رأسه بالمنجنيق، وذلك ما راع أهل مكة، لكن المثل الذى ضربه لهم الحجاج كان دامغًا، حين قارن لهم بين آدم الذى طرده الله من الجنة لما عصى، وابن الزبير، ومؤكد أن آدم خير وأكرم عند الله من ابن الزبير، والجنة أشد حرمة عند الله من مكة. قد يرى البعض فى هذه الخطبة تلاعبًا بالعقول، وتوظيفًا لبلاغة القول لتبرير فعل وحشى، لكن السؤال كم من الناس يمتلك هذه القدرة؟. مؤكد أن الاستبداد لا يأتى من فراغ، والمستبد ليس إنسانًا محدودًا، بل شخص يمتلك أدوات خاصة تمكنه من السيطرة، وإملاء إرادته على الآخرين، وبيئة عامة تدعم فكرة الاستسلام. ولو أنك تأملت تاريخ المسلمين فستجد- ويا للعجب- أن أنجح قادة الأمة كانوا من المستبدين، وأن أغلب الدول التى تعاقبت على المسلمين سقطت، عندما تولى أمرها حكام ضعاف طيبون. وهى مسألة لا تتعلق بالإسلام بحال من الأحوال، قدر ما ترتبط بطبيعة العقلية التى تميل إلى الاحتفاء بالقوة.. المهم أن تكون قادرة!.

حين اقتربت ساعته دخل عليه بعض الشامتين فنظر إلى السماء وقال: «اللهم اغفر لى.. فإنهم يزعمون أنك لا تفعل»
فعل «الحجاج» الكثير فى سبيل الدولة الأموية، أزهق أرواح معارضيها ومخالفيها بلا هوادة، وضرب الأبشار، وجلد الظهور، وجمع لها الأموال. كان يفعل ذلك بلا اكتراث، وديدنه الحفاظ على الدولة. وكان من الطبيعى أن يحصد- نتيجة ذلك- بغضًا عميقًا من جانب معاصريه، خصوصًا من أضيروا على يديه. ولم ير الكثيرون سبيلًا للخلاص منه إلا بقضاء الله وقدره، وعندما مرض «الحجاج» لم يصدق الكثيرون ذلك. وتساءلوا أيمرض الحجاج، كما يمرض الناس، ويموت كما يموت كل حى؟. لهم عذرهم فى ذلك فقد كان «الحجاج» عودًا صلبًا يحاول الصمود حتى آخر نفس. وعندما بدأ الناس يتهامسون بموته، خرج إليهم خطيبًا، ومن بين ما قاله فى هذا المقام: «إن طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم، فقالوا مات الحجاج، ومات الحجاج.. فمه، فهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟!. والله ما يسرنى ألا أموت وأن لى الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رضى التخليد إلا لأهون خلقه عليه: إبليس. قال الله له: (إنك من المنظرين)، فأنظره إلى يوم الدين، ولقد دعا الله العبد الصالح، فقال: (هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى)، فأعطاه الله ذلك، إلا البقاء، ولقد طلب العبد الصالح الموت، بعد أن تم له أمره، فقال: (توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين). فما عسى أن يكون أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل؟!. كأنى والله بكل حى منكم ميتا وبكل رطب يابسا».
ولو صحت نسبة هذه الكلمات إلى الحجاج، وأظن أنها له، إذ يحضر فيها «نفسه الأسلوبى» بشدة، فإنها تعكس حال شخص يحقر الدنيا، ويرجو رحمة ربه فى الآخرة، وقد مات «الحجاج» ولم يكن فى حوزته أكثر من ٣٠٠ دينار، وهو أمر طبيعى لرجل كان يؤمن أنه إذا مات الإنسان: «انصرف الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله»، لكن يصح لنا أن نقول إن كثيرين ممن عاصروا الحجاج أو تأخروا عنه من المؤرخين شكوا كل أو بعض الشك فى إيمان الرجل، وبلغ الأمر ببعضهم حد التصور أن مغفرة الله لا تشمله، وأن رحمته التى وسعت كل شىء لا تسعه!. وربما كان شفيعهم فى ذلك أن توبة الإنسان لا تصح، إذا حضره الموت، وأوشك على ترك الدنيا.
دخل الكثيرون عليه فى مرضه فبانت فى أعينهم الشماتة، بل وردد بعضهم بلسانه كلمات تنذر «الحجاج» بالعذاب الأليم جراء ما جنت يداه فى خدمة الدولة الأموية، ساعتها نظر الرجل إلى السماء ودعا دعوة غريبة، قال فيها: اللهم اغفر لى.. فإنهم يزعمون أنك لا تفعل». لا أعلم دعاء لله أكثر عبقرية من هذا الدعاء الذى لهج به لسان «الحجاج»، وقد شارف على لقاء ربه. كان عمر بن عبدالعزيز يبغض «الحجاج»، فنفس عليه بهذا الدعاء الذى توجه به إلى الله عند الموت. روايات متعددة تحدثت عما قاله الحجاج، وهو يحتضر، من بينها قوله: «يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا.. بأننى رجل من ساكنى النار.. أيحلفون على عمياء ويحهم.. ما علمهم بعظيم العفو غفار؟»، وقوله «إن الموالى إذا شابت عبيدهم فى رقهم.. عتقوهم عتق أبرار.. وأنت يا خالقى أولى بذا كرما.. قد شبت فى الرق فأعتقنى من النار». ولا تخرج هذه الأقوال عن ذلك الدعاء العبقرى الذى ردده الحجاج وهو يموت: «اللهم اغفر لى فإنهم يزعمون أنك لا تفعل».

دوري ابطال اوروبا

365Scores.comمزود من

الدوري السعودي

365Scores.comمزود من

الدوري الانجليزي

365Scores.comمزود من

الدوري الاسباني

365Scores.comمزود من