رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى وداع طواجن السعدنى


ونحن نعيش ذكرى رحيل الكاتب المصرى الساخر محمود السعدنى هذه الأيام، نذكر له نضاله من أجل الحرية، التى فى سبيل المطالبة بها عاش تجربة الاعتقال مرات كثيرة، كانوا يسجنون الجلباب الهيكل، ويبقى السعدنى الساخر الحالم ابن البلد طليقًا فى عيون وأفئدة مريديه وعشاق كتاباته.. إنها الكتابة، المهنة المتعبة وهى أيضًا الاستشفاء، التى لم تستطع رقابة أو سلطان منعه إياها، فظل يشدو مغردًا «سأعيش صحفيًا، وأموت صحفيًا، وسأحشر يوم القيامة فى زمرة الصحفيين».
يذكر الكاتب الكبير د. عبدالمنعم سعيد: «فاجأنى د. عمرو عبدالسميع مازحًا أنه لا يصح صيام رمضان دون زيارة خيمة عمنا الأستاذ محمود السعدنى، فذهبنا وكانت ليلة من ليالى رمضان التى لا تُنسى حيث جاء مثقفون وكتاب من كل نوع وصنف اجتمعوا بشكل أو آخر على علاقة مع عم لم يكن أبدًا أخا لآبائنا ولكنه كان عمًا بمعنى أنك تستطيع الاعتماد عليه فى أوقات الشدائد!». وتكررت زيارة الخيمة الرمضانية لعدد من المرات.
يذكر كاتبنا الروائى «يوسف القعيد» فى جلسة جمعت نجيب محفوظ بالسعدنى، سأل نجيب: كيف الصحة يا محمود؟! قال إن الطبيب طلب منه تنظيم الطعام والابتعاد عن ثلاث: «النشويات والحلويات والدهون»، وقد بدأ التنفيذ فورًا. وكانت النتيجة أنه لا يتناول أى طواجن فى طعامه التى كانت ركنًا أساسيًا من قبل».
فى مطلع كتابه «وداعًا للطواجن» كتب «السعدنى» مع الاعتذار لعمنا الكبير أرنست همنجواى مؤلف رواية «وداعًا للسلاح» الذى أطلق النار على نفسه فى النهاية وأراح واستراح، نعتذر له لأننا تجرأنا وكتبنا «وداعًا للطواجن» وإن كان من المؤكد أن الطواجن أشد فتكًا من أى سلاح!.
ومن سطور كتاب الطواجن يذكر الكاتب «كنت أعرف صديقًا عميق الإيمان، شديد التمسك بدينه، وكان يقضى نهار رمضان فى الصوم، ويقضى ليله فى الصلاة.. فإذا جاء موعد الإفطار فلا بد من مائدة عامرة سلطانية المرق على رأسها، ثم لا بد من طبق الأرز بالكبد والكلاوى، ثم كتف خروف.. ولا بد أن يكون الكتف تشبهًا بما كان يحب رسول الله من الضلع أعلاه وله حديث شريف «أفضل اللحم ما جاور العظم». يصف محمود السعدنى أحداث بعض محطات تجاربه فى الحياة قائلًا: «زمان كان مدرس الحساب يعتقد أننى حمار وكنت أعتقد أننى عبقرى. وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن المدرس كان على خطأ واكتشفت أيضًا أن العبد لله لم يكن على صواب، فلا أنا عبقرى ولا أنا حمار، بصراحة أنا مزيج من الاثنين، العبقرى والحمار. أنا حمقرى!».
ولأننى حمقرى فقد كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلاس، ولأننى حمقرى كنت أرفع شعارًا حمقريًا «أنا أضحك إذن أنا سعيد»، وبعد فترة طويلة من الزمان، اكتشفت أن العكس هو الصحيح، واكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة تفرقع على لسانه تفرقع مأساة داخل أحشائه، وأنه مقابل كل ابتسامة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه.
ولقد صدق، فرغم أنه كان من مؤيدى ثورة يوليو ١٩٥٢، إلا أنه سُجن عندما عاد من سوريا حاملًا خطابًا من «خالد بكداش» رئيس الحزب الشيوعى بسوريا، ليسلمه إلى الرئيس عبدالناصر، لكن صديقه طوغان نصحه بتمزيق الخطاب حتى لا يتورط مع النظام السياسى فى ذلك الوقت، لكنه أصر وذهب لتسليم الخطاب إلى الرئاسة، فتم اعتقاله، وعندما سأله الضابط عن التنظيم الذى ينتمى له، قال لهم: «زمش». فتعجب الضابط من رده، فسأله: «يعنى إيه؟».. فرد عليه، مبتسمًا: «زمش».. اختصار لـ«زى ما أنت شايف!».
لقد حاول عثمان أحمد عثمان، رئيس شركة المقاولون العرب، تعيين السعدنى بالشركة لكنه رفض قائلًا: «أنا صحفى وسأبقى صحفيًا وسأبعث يوم القيامة فى كشف نقابة الصحفيين، فيمكن لأى أحد أن يصنع وزيرًا أو رئيسًا للجمهورية لكن ليس بإمكان أحد أن يصنع كاتبًا أو مطربًا لأن الموهبة منحة من الله». لذلك سافر وعاش خارج مصر، متنقلًا «بلد تشيل وبلد تحط»! وعاد إلى مصر بعد رحيل السادات.. رحم الله كاتبنا الوطنى النبيل.