فى حضرة نجيب محفوظ
طلبت رقم الهاتف مرة ثانية، ما الذى سيحدث أصلًا حتى لو رفض الحوار؟ ستكون فرصة لأسمع صوته يقول أى شىء بخلاف «الووو».
مع الجرس الأول كان صوت الأستاذ يقول نفس الـ«الووو».. بمنتهى الثقة تحدثت: أيوه يا أستاذ نجيب.. أنا فلان.
علّى صوتك يا ابنى.. جاءنى صوته من بعيد.
رفعت صوتى وطلبت منه إجراء الحوار فقال «يوم التلات الساعة ٤ العصر.. ماشى يا معتصم.. يوم التلات الساعة ٤ العصر.. مع السلامة».
إيه ده أنا كلمت نجيب محفوظ فى التليفون صح؟!
سألت نفسى وأنا غير مصدق، قبل ثلاثة أشهر كنت أقطع أكثر من ١٠ كيلومترات على قدمىّ فى الصعيد لأصل إلى المكتبة لأقرأ رواية له، والآن أحدثه هاتفيًا وسألتقيه وأُجرى معه حوارًا يوم الثلاثاء.
هو النهارده إيه؟
النهارده الأحد.. طرت إلى الجريدة التى أعمل بها لأخبرهم بأننى سأجرى حوارًا مع نجيب محفوظ، ابتسم صديقى إيهاب البدوى وهو يقول لى: بالتوفيق.. وطلب منى اصطحاب مصور.
فى الثالثة كنت أركب «أتوبيس» يمر من شارع العجوزة ويتوقف أمام المطعم الشهير الذى يجاور مستشفى الشرطة.. شقة نجيب محفوظ فى الدور الأول من العمارة.. على البلكونة زرع ونباتات خضراء تميز العمارة.. وقفت قليلًا لأنتظر المصور الذى وفرته الجريدة، (لم يحضر وأرسل بدلًا منه زميلًا آخر التقط مجموعة كبيرة من الصور لنجيب محفوظ وزوجته ومنزله وباع لى ٤ صور).
فتحت لى الباب السيدة الفاضلة زوجته.. زوجة تُشبه أمهاتنا المبتسمات ممن يرحبن بالضيوف فى حفاوة بالغة.. أجلستنا واستأذنت لحظات.. هذا نفس المكان الذى أشاهده فى الصور. بالأمس كنت أقلّب فى الصور.. هنا كان يجلس الأستاذ عبدالرحمن الأبنودى، وهنا كان يجلس الأستاذ جمال الغيطانى.
دخل الأستاذ يرتدى روبًا فوق ملابسه.. يتحرك ببطء، لكن ينظر للأمام مبتسمًا.. رحب بى وبزميلى المصور، وقبل أن نبدأ الحوار قال: «كُل شيكولاتة».. أخذت قطعة وضعتها جانبى وأنا أفتح جهاز الكاسيت لأسجل فقال: «كُل الشيكولاتة».. أكلت الشيكولاتة وأخبرته عن عبدالمنعم أبوالفتوح وقصة الزيارة، وهل نبدأ بها الحوار، فصمت وقال: «بلاش.. كُل شيكولاتة».. نظرت إلى زوجته ووضعت أمامها أجندة بها الأسئلة، وأشرت إلى سؤال «عن الشخص الذى طعنه» ولسان حالى: «أمال لو شاف السؤال ده هيعمل فيا إيه؟»، فقالت بلاش، فسأل فقلت له: «كنت عايز أسأل حضرتك عن فلان اللى طعنك...» لم أُكمل السؤال أصلًا ووجدته يقول: «بلاش كُل شيكولاتة حلّى بقك».
نصف الساعة مر وأنا أجلس مع نجيب محفوظ وزوجته نتحدث، لم أُجرِ فيها حوارًا، فقط كنت باكل شيكولاتة.
هنا قلت له: «هل نبدأ الحوار؟».. فقال: نعم.
لم أعرف وقتها سر تأخره فى بدء الحوار.. لكننى عرفت فيما بعد أنه كان يعانى من ألم فى المعدة وطلبت منه زوجته إلغاء الحوار، لكنه رفض.
وبدأنا الحوار الذى طال أكثر مما توقعت.
سألته كل الأسئلة التى سجلتها، وكل ما دار برأسى خلال الحوار.
وقد أجاب بذهن حاضر وذاكرة قوية، ولسان يعرف كيف يوجه الإجابة لتضرب فى منطقة أخرى.. قلت له: الكتابة مرهقة له، ومحبوه يخشون أن يعلن التوقف، فقال: «مرهقة جدًا جدًا. إمساك القلم فى المرحلة الحالية صعب لكن من ينتقدوننى ويقولون إننى أسيطر على الساحة لم يقدموا أى شىء.. تخيل أنا تركت لهم الرواية والقصص وأكتب أحلام فترة النقاهة التى تُشبه (لطشات الحلم)، تركت لهم الساحة ولم يتقدموا خطوة».
استمر الحوار متدفقًا حتى عاد من جديد إلى مرحلة «كُل شيكولاتة».
نكمل.. غدًا.