رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تفاصيل حفل افتتاح قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل

جريدة الدستور

في يوم احتفالي بحت شبيه بتلك اللحظات التي نعيشها في هذا اليوم 6 أغسطس 2015، مر عليه أكثر من 146 عامًا، حفل افتتاح قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل في 17 نوفمبر 1869م، حضره على أقل تقدير 100 ألف من الأجانب والمصريين، وبلغت تكلفة الحفل مليونًا و400 ألف جنيه، وشيدت دار الأوبرا في 5 أشهر بتكلفة 160 ألف جنيه؛ من أجل هذا الافتتاح والاحتفال بالقناة.

كانت احتفالات ضخمة نظمها الخديوي إسماعيل في إطار الاحتفال بافتتاح القناة، وجاء ذلك الافتتاح بعد أن تمكن ديليسبس من الحصول على فرمان بحفر قناة السويس على أن تكون مدة الامتياز ٩٩ عامًا من تاريخ فتح القناة في عهد سعيد باشا.
وبعدها قام ديليسبس برفقة لينان دي بلفون بك وموجل بك، كبيري مهندسي الحكومة المصرية، بزيارة منطقة السويس في ١٠ يناير ١٨٥٥، وقدما تقريرهما في ٢٠ مارس ١٨٥٥، والذي أثبت إمكانية تحقيق هذا.
وفي أواخر عام ١٨٦١ قام الخديوي إسماعيل بزيارة مناطق الحفر بجوار بحيرة التمساح، واختار موقع المدينة التي ستنشأ بعد ذلك، وفي ١٥ أغسطس انتهى حفر القنا،ة وتم اتصال مياه البحرين في منطقة الشلوفة.

وبلغت تكاليف الحفر ٣٦٩ مليون فرنك فرنسي وبلغ عدد العمال مليون عامل وكان عدد الذين توفوا أثناء الحفر ١٢٥ ألف عامل ثم دعا الخديوي إسماعيل أباطرة وملوك العالم وقريناتهم؛ لحضور حفل الافتتاح، والذي تم في ١٦ نوفمبر ١٨٦٩وقد كان حفلاً أسطوريًا.
واستعدادًا للاحتفال، توجه الخديوي إلى أوروبا في 17 مايو 1869 لدعوة الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات ورجال السياسة والعلم والأدب والفن؛ لحضور حفل افتتاح القناة، ولبى دعوته 600 مدعو من الملوك والرؤساء والأمراء ورجال العلم والسياسة والصحافة، كما استحضر الخديوي 500 طاهٍ وخادم من فرنسا وإيطاليا؛ لأن الخديوى إسماعيل كان يريد حفل الافتتاح أن يكون فرصة كي يطلع ملوك وأباطرة وأمراء أوروبا على ما أسماه "بالنهضة" التي شملت مصر في عهده.


وتم الاحتفال وسط ترقب دول العالم للحظة افتتاح ذلك المعبر المائي ونجاح فكرة المشروع الذي راود الكثيرين منذ قديم الأزل، وفى يوم افتتاح قناة السويس، جرى التقاء مياه البحرين المتوسط والأحمر بعد عمل دام عشر سنوات، وأنشئت مدينة الإسماعيلية عند نقطة العمل والتقاء البحرين، وكذلك أنشئت مدينة بور سعيد على شاطئ البحر المتوسط.

ومن ضمن الاستعداد لذلك اليوم قام "إسماعيل" بتشييد قصر فخم على شاطئ بحيرة التمساح و1200 خيمة لإقامتهم، من أجل رفاهية المدعوين، إضافة إلى إنشائه لطريق من القاهرة إلى أهرام الجيزة، تولى مهمته 10 آلاف عامل، وتم إنجازه في شهر واحد، وأنشأ كذلك دار الأوبرا.
وفي يوم 15 أكتوبر 1869 بدأ المدعون بالقدوم ضيوفًا على مصر في بور سعيد مقر الحفل، وأعدت لهم رحلات إلى الوجه القبلي عبر النيل في السفن التي جهزت لهذا الغرض، وذلك قبل بدء المهرجان الرسمي للافتتاح، حيث أنفق إسماعيل عن بذخ وإسراف لا مثيل له في الافتتاح. 

وكان أول من حضر إلى مصر ولي عهد هولندا ثم إمبراطور النمسا فولي عهد بروسيا، ثم وصلت الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا وتغيب زوجها الإمبراطور نابليون الثالث لأسباب سياسية، وقد مرت قبل وصولها إلى مصر بالقسطنطينية، حيث استقبلها السلطان العثماني "عبد العزيز"، وأقام لها العديد من الولائم وأغدق عليها الكثير من الهدايا، مع ملاحظة أن الخديوي إسماعيل لم يدع السلطان العثماني لحضور الافتتاح.
كان الخديوي إسماعيل قد سافر مع حاشيته ووزيريه نوبار باشا وشريف باشا إلى الإسكندرية، حيث استقل يخته المحروسة وأبحر إلى بور سعيد، ورأى الخديوي السفن قادمة من جميع أطراف العالم تحمل ضيوفه الحاضرين على نفقته الخاصة، واصطفت أساطيل الدول في مرفأ بور سعيد ومن ضمنها الأسطول المصري، وقد انتشرت على ضفاف القناة قوات الجيش المصري للحفاظ على نظام الاحتفال. وانطلقت طلقات المدافع مدوية؛ احتفالاً بوصول الضيوف واحدا تلو الآخر.
كما حرص الخديوي إسماعيل على الاهتمام بنظافة المدينة، وحث التجار على توريد الخضروات واللحوم والأسماك كبيرة الحجم لبور سعيد؛ لمواجهة الطلبات المتزايدة، إضافة إلى مراعاة إحضار الثلج من القاهرة، فضلاً عن تجهيز عدد من السفن لإحضار المدعوين من الإسكندرية إلى بور سعيد، وكذلك أعطى الأذن في بدء إعداد الزينات؛ وعلى الفور تم إخلاء الشوارع وترتيب العساكر اللازمين لحفظ الأمن.

وعندما اكتمل عقد المدعوين في يوم 16 نوفمبر، انتشر المصريون من جنود وأهالي على ضفتي القناة بخيامهم وأدواتهم لمشاهدة هذا المهرجان العظيم، وكان الخديوي إسماعيل قد أوعز إلى مديري الأقاليم ليرسل كل منهم جماعة من الأهالي بنسائهم وأطفالهم وأدواتهم البيتية وركوبهم، فانتشروا على طول القناة، أعراب، وسودانيين وفلاحين، وصعايدة؛ تعبيرًا عن كافة طوائف الشعب المصري.

وبدأت الفعاليات بحفلة دينية في الساعة الثانية من ظهر يوم 16 نوفمبر 1869، وأقيمت ثلاث منصات خشبية كبيرة على شاطئ البحر مكسوة بالحرير والديباج ومزينة بالأعلام ومفروشة بأثمن السجاد، ونشرت في أرجائها الرياحين والورود وصفت فيها الكراسي.

وتم تخصيص منصة الوسط للضيوف وعلى رأسهم مضيفهم خديوي مصر، وكانت المنصة اليمنى للعلماء المسلمين في مقدمتهم الشيخ السقا، والشيخ العمروسي، والشيخ المهدي العباسي، مفتي الديار المصرية، فيما خصصت المنصة اليسرى لأحبار الدين المسيحي ورجال الإكليروس، وعلى رأسهم المنسيور كورسيا، أسقف الإسكندرية ،والمنسيور باور الرسول البابوي.
ونصب على الشاطئ الآسيوي خيالة بور سعيد وعلى الشاطئ الإفريقي المظلات البديعة للجماهير المدعوين، ووقفت السفن بالمرفأ على شكل قوس، وكان عددهم يفوق الثمانين بجانب خمسين حربية؛ منها ست مصرية، ومثلها فرنسية، واثنتي عشرة إنجليزية، وسبع نمساوية، وخمس ألمانية، وواحدة روسية، وواحدة دنماركية، واثنتين هولنديتين، واثنين إسبانيتين.‏‏

وكانت فقرات الحفل قد بدأت بعد أن دوت المدافع متتابعة من كل الجهات إيذانًا ببدء الحفل الديني، ووقف شيخ الإسلام محاطًا بالعلماء وتلا ما تيسر من القرآن الكريم، ثم دعا أن يختص هذا العمل العظيم بعنايته ورعايته وأن يهيئ له النجاح في كل زمان. 

وبعدها تقدم المنسيور كورسيا يحوطه رجال الإكليروس وتلا صلاة حارة دعا الله فيها أن يكلأ هذا العمل ويباركه بروح من عنده، وتبعه المسيو باور، وألقى بصوت جهوري وبعبارة فرنسية بليغة خطابًا وجهه إلى الخديوي أولاً خصه فيه بآيات الشكر والثناء على قيامه بهذا العمل العظيم، الذي أدى إلى تصافح الشرق والغرب.

وفي المساء مدت الموائد متتابعة لستة آلاف مدعو وبها أشهى الأطعمة والأشربة، حتى إذا حلت الساعة الثانية بدت الأنوار والزينات على ضفتي القناة كأنها ضياء الصباح. وظهر يخت الخديوي المحروسة في حلة من الأنوار، وأخذ يطلق مدفع بين دقيقة وأخرى والموسيقى تدوي بنغمات الفرح والسرور، وانقضى الليل واختتمت الحفلة بالألعاب النارية. 

وفي صباح يوم 17 نوفمبر كانت السفن تمر في قناة السويس وتحرك الركب من بور سعيد لدخول القناة، وقد قسم إلى خمس قوافل، وقد استعدت للإبحار وتقدمها يخت الإمبراطورة أوجيني، التي وصفتها الإمبراطورة أوجيني "بأنها لم تر في حياتها أجمل مما رأت".
وكان بجوار يخت الإمبراطورة أوجيني "ديليسبس" وورائها باقي اليخوت والأساطيل وبواخر نقل المدعوين، بينما الرجال على الشاطئ يهتفون والنساء يزغردون حتى وصلوا إلى الإسماعيلية، وفيها استقبلهم الخديوي في قصره الفخم الذي بناه من أجل هذه المناسبة.

ومضى الركب إلى الشاطئ الآسيوي، حيث ذهبت الإمبراطورة إلى عيون موسى، وحرصت على تفقد المكان الذي نزل فيه "بونابرت" في السويس عند حضوره إليها لدراسة إمكان شق القناة أثناء حملته على مصر.

وفي يوم 18 نوفمبر كان هناك خمسون سفينة مصرية وفرنسية وإنجليزية ونمساوية وهولندية وروسية وإسبانية وإيطالية ونرويجية وسويدية مزينة بالأعلام، وفي المساء أقيمت سهرة راقصة أعقبها "مقصف" حوى أطيب المأكولات وأفخر المشروبات في كرم منقطع النظير، وطلب الخديوي من كبار القبائل الأفريقية تنظيم حفل للفروسية. 

وفي 19 نوفمبر، تقدم يخت الإمبراطورة أوجيني تليه اليخوت الأخرى والأساطيل إلى مدينة السويس، حيث وصلوا في صباح اليوم التالي، وكانوا قد أمضوا ليلتهم على سطح البحيرات المرة يشاهدون الألعاب النارية، وحين وصلوا إلى البحر الأحمر دوت المدافع إيذانًا بانتهاء المهرجان؛ الذي أقيم من أجل افتتاح قناة السويس. 

وبعد الانتهاء من حفل الافتتاح طلب الخديوي ممن يريد الإقامة من ضيوفه في مصر أن ينزل فى ضيافته إلى وقت ما يشاء، وبالفعل قضت أوجيني يومين في السويس وضواحيها لتستمتع بمعالمها ثم عادت ثانية إلى بور سعيد وبعدها أبحرت إلى الإسكندرية وتجولت أيضًا في بعض عدد من مدن الوجه البحري.

وبعدها عادت إلى القاهرة، حيث أنشأ لها الخديو إسماعيل قصر الجزيرة، فقد كلف مهندس البلاط الخديوي "يوليوس فرانس" بتصميم قصر بجزيرة الزمالك، فشيد له سراى الجزيرة على غرار قصر "الهمبرا" بغرناطة، وتم استخدم هذا القصر كمقر لإقامة الإمبراطورة أوجيني وحاشيتها خلال احتفالات افتتاح قناة السويس.

كان عدد من نزلوا بمدينة الإسماعيلية أثناء حفلات القناة بلغ على أقل تقدير 100 ألف من الأجانب والمصريين، وكانت المدينة مكدسة للغاية بزائريها، ومن أصعب الأمور على الضيوف والسواح الأجانب في ذلك الوقت كانت إمكانية العثور على سرير للنوم بفنادق ومنازل المدينة؛ لأنها كانت مشغولة بالنازلين بها، ويذكر أنه وعندما عزمت وقررت الإمبراطورة أوجيني على الرجوع إلى بلادها رافقها إسماعيل وكبار رجال حاشيته إلى يختها بالإسكندرية ومنه إلى باريس.