الانتخابات الأمريكية وحقوق الإنسان.. هل من جديد؟
يبدو أن الانتخابات الأمريكية المقبلة المزمع إجراؤها فى نوفمبر المقبل قد تحمل مفاجأة كبيرة، أهمها احتمال وصول أول امرأة إلى البيت الأبيض، خاصة بعد المناظرة الأخيرة بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس ودونالد ترامب، والمثير للانتباه فى هذه المناظرة تسليط الضوء على القضايا الحقوقية، سواء كانت على المستوى الداخلى أو الخارجى، من خلال شد وجذب، دائمًا ما تعودنا عليه خلال الانتخابات بين الحزبين على مدار أكثر من ٥٠ عامًا، يتم فيها استخدام القوى الناعمة، وأهمها حقوق الإنسان؛ لتحقيق مكاسب انتخابية وكسب أكبر عدد من أصوات الناخبين.
ومن الملاحظ أن الحزبين المتنافسين «الجمهورى والديمقراطى» لهما رؤية مختلفة تمامًا فى استخدام الملف الحقوقى لخدمة مصالح الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية، فنلاحظ أن الحزب الديمقراطى يستخدم ملف حقوق الإنسان كورقة ضغط سياسية لحماية مصالحه، فيتبع سياسة الهجوم على بعض الدول، خاصة الكبرى منها، على سبيل المثال مصر؛ ليضغط على الإدارة السياسية لتحقيق مطالب تخدم مصالحه السياسية والاقتصادية فى المنطقة له وللكيان الصهيونى، وذلك على عكس مرشح الحزب الجمهورى الذى يميل بشكل كبير فى عدم استخدام ملف حقوق الإنسان والتلويح بعقوبات، ويعتمد على استراتيجية الحوار المباشر وسياسة تحقيق المصالح المشتركة، وهذا الأمر الذى يعكس ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين فى التعامل مع الملف الحقوقى، وهو الأمر الذى يفقد الولايات المتحدة الأمريكية مصداقيتها، فنجد إدارة تحاول أن تظهر بمظهر الدولة التى تحمى حقوق الإنسان فى العالم، وتسعى إلى نشر الديمقراطية باستخدام ملف حقوق الإنسان كورقة ضغط، فى حين أن سياسة الحزب الأخير على النقيض تمامًا، فنادرًا ما تستخدم الملف الحقوقى كورقة ضغط، وتعتمد على استراتيجية مختلفة تمامًا لحماية مصالحها فى المنطقة بشكل خاص.
والمذهل فى الأمر أنه فى وقت حكم ترامب أشاد بشكل كبير بالتحسينات التى طرأت على الملف الحقوقى المصرى، ليأتى بعدها جوزيف بايدن ليتبنى سياسة مغايرة تمامًا تعتمد على التهديد والتلويح بالعقوبات، وكأن الولايات المتحدة قد اعتمدت فى تقييم حالات حقوق الإنسان على معايير واتفاقيات خاصة بها فقط لا علاقة لها بالعهود والاتفاقيات الدولية التى تحمى حقوق الإنسان؛ مما جعل الأمر أشبه بمسرحية هزلية تتكرر فى كل انتخابات، وأفقدت الولايات المتحدة الكثير من حياديتها ونزاهتها، وجعلتها مصدر سخرية الكثير من دول العالم، التى رأت أن الولايات المتحدة دولة ليست لديها ثوابت واضحة، وتتغير الأمور ١٨٠ درجة حسب مصالحها، وهو أمر يحسب عليها، ويصنفها البعض على أنها دولة تتميز بالسذاجة فى تعاملها مع الملف الحقوقى والسياسى، وهو الأمر الذى أكسب الدب الروسى مساحة كبيرة فى الشرق الأوسط، استطاع من خلالها أن يحسن من علاقاته بدول المنطقة، وعلى رأسها مصر من خلال علاقات مميزة تعتمد فيها مبدأ الاحترام المتبادل وعدم الاعتماد على سياسة الضغط الحقوقى، وهو الأمر الذى أدى إلى تعاون كبير على المستوى العسكرى والسياسى والأمنى والاقتصادى يتطور بشكل مستمر، وهو ما يزعج الولايات المتحدة بشكل كبير وعبرت عنه فى مناسبات عديدة.
ما يحدث فى غزة من تجاوزات حقوقية وإنسانية بدعم عسكرى وسياسى ومادى أمريكى فاق كل التوقعات، ورفع سقف التجاوزات فى ملف حقوق الإنسان إلى مستوى غير مسبوق جعل من محاسبة أى دولة ترتكب تجاوزات فى ملف أمرًا شبه مستحيل؛ نتيجة لفشل مجلس الأمن فى معاقبة إسرائيل على ما ترتكبه من جرائم حرب فى حق الشعب الفلسطينى، وهو الأمر الذى صعّب بشكل كبير جدًا من مهمة المجلس الدولى لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فى ممارسة دوره فى حماية حقوق الإنسان، وتعزيز هذه الثقافة فى الدول الأعضاء بالجمعية العامة الـ ١٩٣ وأفقده جزءًا كبيرًا جدًا من قدرته على التأثير وحمايته حقوق الإنسان، وهو ما حول هذه الأمم المتحدة إلى كيان معطل تسيطر عليه الدول الأعضاء دائمة العضوية، مما أفقده جزءًا كبيرًا من قدرته على مواجهة التجاوزات والانتهاكات التى تحدث فى مختلف دول العالم فيما يخص الوضع الحقوقى والإنسانى.
عندما نتحدث عن حقوق الإنسان لا يمكن أن نغفل الدور المهم التى تقوم به المنظمات الحقوقية، وهو رصد وتوثيق التجاوزات والانتهاكات وتقديمها للمجتمع الدولى دون تحمل أى وجهة نظر سياسية، مع تقديم توصيات للدولة صاحبة التجاوزات لحل هذه المشكلة، وهو الأمر الذى افتقدته أكبر منظمة حقوقية، وهى منظمة أمريكية، وهنا نتحدث عن هيومن رايتس ووتش، والتى استخدمتها الولايات المتحدة فى مناسبات عديدة كورقة ضغط، ما حولها إلى منظمة حقوقية لها أجندة سياسية، وتعتمد تمويلًا مجهول المصدر، وفشلت أكثر من مرة فى إثبات مصدره، لكن مع كل هذه التحديات يظل دور المنظمات الحقوقية مهم جدًا فى عملية الرصد والتوثيق وتقديمها للمجتمع الدولى طبقًا للمعايير والضوابط الدولية مع التأكيد على أن هذه المنظمات ليست صانعة القرار، بل يظل القرار والتغيير فى يد القوى السياسية الدولية، والتى تتحكم بها الولايات المتحدة الأمريكية، وبرغم هذه التحديات ستستمر المنظمات الحقوقية المحايدة فى أداء عملها دون توقف على أمل أن تحدث استفاقة دولية تستخدم التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية فى إدانة الولايات المتحدة وإسرائيل.
وفى نهاية مقالى أود أن أشير إلى خطورة تفاقم وتدهور الأوضاع الحقوقية والإنسانية فى الكثير من دول العالم، على رأسها دول الصراع المسلح، وهو الأمر الذى يحتاج إلى تحمل الدول الكبرى مسئولياتها والتدخل العاجل لمنع تفاقم هذا الوضع الذى بدا أنه يخرج عن السيطرة وإصلاحه أصبح صعبًا حدًا.