رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكراه.. كيف كانت السينما أهم روافد المعرفة عند أحمد خالد توفيق؟

أحمد خالد توفيق
أحمد خالد توفيق

تعتبر السينما من أهم الروافد التي أثرت في أحمد خالد توفيق، وليس في توفيق فقط، فالكثير من أدباء مصر كانت لهم مع السينما حكايات وحكايات، وكلهم كانت السينما منبعًا حقيقيا لهم فأدباء القاهرة والإسكندرية خصيصًا كانت لهم مع السينما الكثير من الحكايات، فمن أديب نوبل نجيب محفوظ ومرورا بصبري موسى وإحسان عبد القدوس ومصطفى نصر وعبد الوهاب الأسواني وإبراهيم عبد المجيد، حتى أن الكثير منهم أفرد لها كتبا ليحكي عن دورها في صناعتهم مثل الروائي إبراهيم عبد المجيد والذي كتب "أنا والسينما"، وغيرهم.

كان أحمد خالد توفيق عاشقا للسينما وكان منبهرا بها منذ صغره، ليس فقط الأفلام، ولكن طريقة عمل السينما، وكان يتحدث دائما عن عمل الكاميرا وتغيير البكرات والخدوش على جانب الكادر، والشعاع المحمل بالأحلام من نافذة العرض، وصوت هدير الآلة واهتزازها، ولم يأت هذا الحب من فراغ وإنما تكون من ولع الوالد نفسه بالسينما، ولذلك قصة، فكان خالد توفيق الأب يصحب ابنه كل يوم ثلاثاء إلى السينما، وكان يحرص على أخذ أشياء معه مثل ساندوتشات السجق، وتبدأ الأمسية، كانت البداية مع الأفلام الحربية، ثم جاءت افلام الرعب، وحدث أنه شاهد فيلم "دراكيولا" بصحبة صديقه "أبهج أديب" وكان يقول خالد توفيق عن الفيلم": "لم أتصور أن يحوي العالم كل هذا القدر من الرعب"، ومع الرعب الشديد الذي استفحل فيه بدأ بطلب المزيد، والمزيد، ومن هنا رغب في كتابة قصص الرعب، وعنها يقول:" هي وسيلة ليكون خلف المدفع لا أمامه، وإن إخافة الناس توهمك أنه الاكثر شجاعة".

بدأ حبه للسينما صغيرًا وتحديدًا في المرحلة الابتدائية، حينها كان ينتظر تغير الإعلانات للسينما على الجدار المقابل لمنزله يوم الاثنين والذي يحمل الأفيش الجديد للفيلم المعروض، وفي إمساكه بيد والده لمشاهدة الفيلم يوم الثلاثاء، كانت بداية أسبوع سينمائي جميل ملئ بالأحلام والمشاهدات في سينمات مثل أوبر وريفولي والجمهورية ومصر وجندولا، ووصف خالد توفيق عشقه للسينما بالحالة المرضية، وذلك من كثرة افتتانه بهذا العالم.

ويصف خالد توفيق كيف كان والده حريصًا كل الحرص على إمداده بكل جديد في هذا العالم ولكن تقف بعض العقبات في الطريق، يقول: "كنت نهما للقراءة عن هذا الفن الفاتن، كما أن أفلاما كثيرة فاتتني ولم أرها لأن ابي رأى أنها "أبيحة"، أو لأننا في ضائقة مالية آخر الشهر فيما بعد عرفت أن أبي كان يتهم بعض الأفلام أنها أبيحة لانه ليس معه مال كاف لاصطحابي للسينما، سوف تلاحظ أن الفترة من 1967 – 1973 تتكرر في أفلام كثيرة هنا لأن تثبيت حبي للسينما حدث في تلك الفترة، المرحلة الابتدائية.

هناك استثناءات نادرة مثل فيلم "أحلام" الذي عرض عام 1990 وأجانتوك الذي عرض بعده بعامين، في المرحلة الابتدائية كنت أقرأ تلك الأحلام التي يحكي عنها الكهنة من أمثال النقاد سامي السلاموني ورؤوف توفيق في كتبه الساحرة "السينما عندما تقول لا"، "سينما الزمن الصعب"، "سينما الحقيقة"، "سينما المرأة"، إلخ.

وهي مقالات كان ينشرها في مجلة صباح الخير ثم قام بجمعها، وأعتقد أنك ستجد هذه الكتب كلها في الأزبكية، أنصحك ألا تترك كتابا منها إذا كنت مهتما بالسينما، هناك كهنة آخرون منهم خيرية البشلاوي، وأحمد رأفت بهجت، وسمير فريد، وفي الزمن الحاضر أتابع كل حرف يكتبه كاهنا عصرنا طارق الشناوي وعصام زكريا.

كتب أحمد خالد توفيق الكثير من المقالات السينمائية عن عدد من الأفلام في مجلة الفن السابع، والتي كان مديرها في تلك الفترة الفنان محمود حميدة، ولكن المجلة توقفت عن الصدور سوى انه احتفظ بمجلداتها كاملة.

وكتب أحمد خالد توفيق مقالا من أجمل ما كتب عن حبه للسينما، وكأن الحروف مغزولة بشوقه تجاه هذا العالم، كان يكتب والكثير من الأحاسيس تتدفق عبر اليد لتلتصق بسن القلم فتنسكب في الحروف نفسها، يقول:" أشك فعلًا في أن أي مخلوق على ظهر الأرض أحب فن السينما كما كنت في صباي، وكنت أنبهر بكل شيء فيها.. بالخدوش على جانب الكادر وعلامة تغيير البكرة، والجلوس في الظلام بانتظار الشعاع المحمل بالأحلام الملونة القادم من نافذة العرض.. عشقت صوت هدير الآلة واهتزازها ورائحة التبغ - كان التدخين مسموحًا به في دور السينما وقتها- وذرات الغبار المتطايرة في الشعاع.

ولم يقتصر حب خالد توفيق على المشاهدة ولكن تعدى ذلك إلى السينما نفسها، يكمل:" لم يقتصر حبي على ما نراه على الشاشة بل امتد إلى دار السينما نفسها.. كل ركن فيها حتى الحمامات عطنة الرائحة وحتى العامل الذي يقودك لمقعدك.. كنت أعتبر هؤلاء سحرة ممن يملكون مفاتيح هذا العالم الخيالي، فلا أستبعد أنه بعد ما نرحل يجلس طرزان وجيمس بوند وفرانكنشتاين وشيرلوك هولمز مع هؤلاء.. بينما يذهب أحد عمال السينما لشراء شطائر للعشاء، ويجلس الجميع يثرثرون ويمزحون.. يتوتر الجو نوعًا عندما يصل الكونت دراكيولا، لكنه لن يمتص دماء زملاء المهنة طبعًا!.

يواصل:" أذكر جولاتي حول الأبواب الخلفية لدار السينما بحثًا عن مفاجأة من السليلويد.. هناك أجزاء فيلم تنقطع ويتخلص منها العامل.. هكذا أجمعها أنا وأهرع للبيت منتشيًا لأقوم بدراستها بالعدسة.. ثم أضعها في مركز بؤرة عدسة وأضيء مصباحًا خلفها ليصير عندي فانوس سحري مرتجل، وأدرس الكادر على الجدار.

ذات مرة وجدت كادرات من فيلم ملون أجنبي.. وحتى في سن العاشرة كنت أعرف أن هذه لقطات مضغوطة من فيلم سينما سكوب، وفيما بعد تقوم عدسة (الهيبر جونار) بفرد الصورة لتصير عريضة. 

كانت اللقطة التي لفتت نظري تظهر رجلًا أفريقيًا يلبس جلد نمر ويحمل رمحًا وخلفه مشاعل، وهناك ترجمة عربية تقول: "النائمون؟ عملية سهلة".

هكذا راح خيالي يعمل كالمجنون لتخيل ما كان قبل وبعد هذه الجملة، هذا الرجل كما هو واضح قاتل.. على الأرجح هو من قبيلة من أكلة لحوم البشر، هناك من كلفه بمهمة مهاجمة معسكر فيه نائمون.. سوف يذبحهم وهم نيام وبالتالي هي عملية سهلة، هل المعسكر الذي ينوي مهاجمته خاص بالرجل الأبيض أم بقبيلة أخرى؟ لو كانت قبيلة أخرى فلماذا يكلفه شخص آخر بهذه المهمة؟.

 جربت مرارًا أن أسأل كل أصدقائي عما إذا كانوا رأوا أفلامًا فيها عملية سهلة تتضمن قتل النائمين، لكن لم أجده قط.

أعتقد أنني رأيت ما يشبه هذا الجنون بوضوح في (بحب السيما) وبوضوح في (سينما باردايسو).. ويبدو أن الطريق كان ممهدًا أمامي لأصير مخرجًا أو مصورًا أو عامل عرض، لكني صرت طبيبًا في ظروف مجهولة.

لم يأت هذا الحب من فراغ، إنما تكون نتيجة لولع أبي الخاص بالسينما، كان يوم الثلاثاء هو بداية الأسبوع السينمائي، فكان أبي يصحبني معه للسينما في ذلك اليوم كل أسبوع، في البداية كان يصحب الأسرة كلها، ثم وجد أن العبء المادي والمعنوي ثقيل وأننا معًا سنكون أخف بكثير.

تبدأ الأمسية بشراء شطائر السجق من مطعم قرب دار السينما، ثم نتجه لنجلس في مقاعدنا.. كلمني أنا عن الإثارة العظيمة للانتظار في الظلام، ثم تسمع هدير آلة العرض وتظهر بطاقة الرقابة ثم أسد مترو جولدوين ماير على الأرجح.. ربما حاملة الشعلة الخاصة بشركة كولومبيا أو كرة يونيفرسال الأرضية أو جبل باراماونت.. هناك أفلام كانت تظهر رجلًا وامرأة يحملان شعلة وهذه علامة شركة موسفيلم السوفييتية. تخصصت سينما أوديون في عرض هذه الأفلام وفي ذلك الوقت كانت كلها حربية.

المهم أن أبي كان من يختار الفيلم طبعًا، وبالطبع لم يكن مولعًا بأفلام طرزان أو أفلام كنج كونج.. لذا لاحظت أشياء معينة.

بالطبع تختلف الاهتمامات من الأب للابن بحسب وعي كل منهما، فالأب يحب أفلام الحروب وفترة النازية والحلفاء والحرب العالمية وغيرها، والولد كان يذهب مع ابيه رغما عنه، سوى أنه كان يستمتع بهذا العالم، يحكي توفيق عن هذه الفترة فيقول: "في البداية كانت هناك دائمًا دبابات وهناك ضباط نازيون وصلبان معقوفة.. هناك دائمًا قصف مدفعية وطيران وجيوش تلتحم ببعضها، ثم يظهر هذا الجنرال أو ذاك ليصرخ: "يجب الاحتفاظ بالجسر!"، لكنهم لا يحتفظون بالجسر، وتنهال عليه القنابل ليملأ الدخان الشاشة.

كنت أستمتع بهذا كله، وعرفت معلومة جديدة هي أن الأفلام التي تعرض في السينما حربية دائمًا، فلا يمكن أن تكون عاطفية أو غنائية أو مضحكة كالتي يعرضها التلفزيون. السينما مكان تجلس فيه في الظلام تأكل السجق وتشاهد النازيين.. لا يوجد لها تعريف آخر.

أبي كان يعشق الأفلام الحربية، وكان يحكي لي عن موقعة نورماندي واقتحام برلين وغزو فرنسا.. إلخ.. كأنه يحكي قصة حب قديمة.. بل إنني بلغت درجة رأيت فيها نفس المعركة بعدة أساليب سينمائية. الأسلوب الأمريكي المبهرج المليء بالبذخ، والأسلوب السوفييتي الكئيب بإيقاعه البطيء.

اقرأ أيضًا..

قلعة السفاحين.. رواية ناقشت الحشاشين وعلاقة حسن الصباح وعمر الخيام ونظام الملك