الفجر يبزغ بعد حُلكة الليل
لا يبزُغ الفجر إلا بعدما تشتد حُلكة الليل.. وفي أمثالنا الشعبية، كان أهلنا الطيبون يرفعون وجوههم إلى السماء ويقولون: (اشتدي يا أزمة تنفرجي).. وكأن ذلك دعاء إلى الله بفك الكرب، وتحد لما هم فيه من صِعاب، وثقة في ذواتهم، بأنهم قادرون على تجاوز المحنة.. وما ينطبق على الحالات الفردية والجمعية، يتحقق في الدول.. ولذا، فكثيرًا ما قال الرئيس عبدالفتاح السيسي، (اصبروا يا مصريين.. طول ما إحنا إيد واحدة، ما حدش حيقدر علينا، ولا حد يقدر يغلبنا).. وكم مرت بمصر من النوائب، لكن صبر المواطن وفكر القائد كانا وراء تجاوزها.. وعندما كان الرئيس يُطمئن المصريين، لم يكن يُسكِّن فيهم هواجسهم، حتى يحمل الغد ما يحمل.. لا.. لم يفعل ذلك، بل مارس التوكل لا التواكل، واستعان بالصبر الجميل المصحوب بالعمل، ومارس الكتمان، وهي خصيصة من خصائص رجال المخابرات، ويقول عنها الناس (داري على شمعتك، تقيد).. حتى كان الإعلان عن مشروع رأس الحكمة، بالشراكة مع دولة الإمارات.. المفاجأة التي أسعدت المصريين، وأقضَّت مضاجع أهل الشر، وكل من أراد السوء لمصر.
وقبل أن نستطرد في الحديث عن هذا المشروع الأكبر في تاريخ مصر، تعالوا نتذكر ما قاله بنك الاستثمار الأمريكي، (جولدمان ساكس) عن مصر، في تقرير أصدره، قبل أقل من عام، إذ في الثاني عشر من يوليو 2023، توقع البنك، أن تصبح الصين أكبر اقتصاد عالمي قبل حلول عام 2075، حيث قدّر الناتج المحلي الإجمالي لها بـ57 تريليون دولار، فيما ستتفوق الهند على الولايات المتحدة لتصبح القطب الثاني في الاقتصاد العالمي، مع ناتج محلي إجمالي 52.5 تريليون دولار، متجاوزة الولايات المتحدة والتي ستأتي في المرتبة الثالثة، بناتج إجمالي 51.5 تريليون دولار.. ورأى الجانب الآخر من التقرير تغيرًا كبيرًا في أكبر الاقتصادات العالمية، والتي سيُعاد ترتيبها من جديد، إذ سيصعد الاقتصاد المصري إلى المرتبة السابعة عالميًا، متقدمًا على كل اقتصادات أوروبا، مع ناتج محلي إجمالي يتجاوز عشرة تريليونات دولار، فيما ستكون إندونيسيا، ونيجيريا، وباكستان، أصحاب المراكز من الرابع إلى السادس في الترتيب العالمي، على أن تظل (ألمانيا)، صاحبة أكبر اقتصاد أوروبي، في المركز التاسع عالميًا، خلف البرازيل.. سبق ذلك تقرير صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، أكد أن مصر هي الوجهة الاستثمارية الأولى في القارة الإفريقية لعام 2022، وأن القاهرة وجهة استثمارية موثوقة.
كانت مصر والعالم بأسره قد خرجوا لتوهم من أزمة (كوفيد ـ 19)، وعانى الجميع ما ألقت به من آثار سلبية على الاقتصادات العالمية، ومنها مصر بالطبع، حتى فوجئ الجميع باندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وما تسببت فيه من تأثر سلاسل الإمداد حول العالم، وارتفاع أسعار البترول والسلع الاستراتيجية والمواد الغذائية، وغيرها مما هو ضروري للإنتاج واستمرار الحياة في المجتمعات.. ومع دخول هذه الحرب عامها الرابع، اندلعت حرب إسرائيل على قطاع غزة، وما تبعها من تأثر السياحة في سيناء، بسبب تلك الحرب، وتهديد الملاحة في البحر الأحمر، بسبب هجمات الحوثي على السفن عند باب المندب، حتى أن مؤسسة (كابيتال إيكونوميكس) البحثية، قالت إن الأزمة الاقتصادية تزداد سوءًا في مصر بمرور الوقت، إذ تؤدي الاضطرابات المستمرة للملاحة في قناة السويس ـ بسبب هجمات الحوثي ـ، إلى مفاقمة نقص النقد الأجنبي وزيادة حاجة مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، مؤكدة أن (جميع المؤشرات تشير إلى قرب التوصل إلى اتفاق جديد وأوسع، لتسهيل الصندوق المُمدد عقب اجتماعات رفيعة المستوى في واشنطن والقاهرة).. وقالت إن التكهنات تشير إلى أن الصفقة الجديدة سيتراوح حجمها بين ثمانية واثني عشر مليار دولار، مقارنة مع الاتفاق الأصلي، البالغة قيمته 3.9 مليار دولار.
قد أظهر استطلاع لوكالة (رويترز) للأنباء، أن الاقتصاد المصري سينمو بوتيرة أبطأ من المتوقع سابقًا، مع تراجع الجنيه وتقلص القوة الشرائية، نتيجة ارتفاع التضخم وتداعيات الحرب في غزة على المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية في البلاد.. وانخفضت إيرادات قناة السويس 40% على أساس سنوي في النصف الأول من يناير الماضي، بعد الهجمات التي شنها الحوثيون في اليمن، على السفن التجارية في البحر الأحمر، وتأثيرها على حركة الشحن في الممر البحري.. كما أدت الحرب التي اندلعت في غزة، في أكتوبر الماضي، إلى تراجع توقعات السياحة.. وكتب بيتر دو بريز، من (أكسفورد إيكونوميكس) في مذكرة للعملاء (تعرضت البلاد خلال التطورات الأخيرة لضربة شديدة من جوانب مختلفة، وبشكل مباشر لمصادر إيراداتها الرئيسية).. وخفَّضت وكالة (موديز) للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية لمصر، من (مستقرة) إلى (سلبية).. وتعثرت حزمة دعم مالي بقيمة ثلاثة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وقَّعها الجانبان في ديسمبر 2022، بعدما لم تتحول مصر، كما تعهدت، إلى نظام سعر صرف مرن، وتقلص دور الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص. ويجري فريق من الصندوق محادثات في القاهرة حاليًا لمناقشة استكمال الحزمة، وربما توسيعها.. وجاء متوسط توقعات النمو في استطلاع وكالة (رويترز)، 3.5% في نهاية السنة المالية التي بدأت في الأول من يوليو، نزولًا من التوقعات السابقة للعام نفسه عند 3.9% في أكتوبر و4.2% في يوليو.. وأظهر الاستطلاع الأحدث، أن النمو سيرتفع إلى 4.15% في السنة المالية المقبلة 2024- 2025، رغم أن التوقعات جاءت أقل من 4.50% التي توقعها المحللون قبل ثلاثة أشهر فقط.
وكما يقولون (ضاقت، فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت، وكنت أظنها لا تُفرجوا)، تترقب الأسواق الآن، تأثيرات صفقة مشروع رأس الحكمة بالساحل الشمالي، بالشراكة بين مصر والإمارات، التي أُعلن عنها يوم الجمعة الماضي، والتي سينتج عنها تدفقات دولارية بخمسة وثلاثين مليار دولار، خلال الشهرين المقبلين.. وبمجرد الإعلان عن الصفقة، تراجع سعر الدولار في السوق الموازية وتراجعت العقود الآجلة غير القابلة للاسترداد للجنيه المصري (آجل 12 شهرًا).. وقبيل الإعلان عن الصفقة، قفزت السندات السيادية المصرية المُقوَّمة بالدولار، استحقاق 2050.. حققت أكبر مكاسب، وهذا يعني انخفاض تكلفة التأمين على الديون السيادية المصرية، وهو ما يمكن تفسيره بانخفاض قلق المستثمرين تجاه قدرة مصر على تلبية التزاماتها الدولية.. وفيما يتعلق بالالتزامات الدولية، فستسهم الصفقة في خفض الدين الخارجي لمصر بنحو أحد عشر مليار دولار، مسجلة لدى البنك المركزي المصري كودائع للإمارات، حيث شمل الاتفاق أن يتم تحويل هذه الودائع إلى أموال بالجنيه المصري، يتم ضخها لتنفيذ المشروع.
وتوقع بنك جولدمان ساكس ـ وهنا بيت القصيد ـ أن تسهم التدفقات الاستثمارية البالغة نحو أربعة وعشرين مليار دولار، من الاتفاق مع الشركة القابضة ADQ، التي سيتم ضخها كسيولة دولارية من الخارج لتنفيذ المشروع، في تغطية الفجوة التمويلية لمصر خلال الأربع سنوات المقبلة، والتي سبق وقدرها البنك بنحو خمسة وعشرين مليار دولار، وأكّد البنك أن حجم الاستثمارات في صفقة رأس الحكمة أكبر بكثير مما كان متوقعًا، وتكفي لتغطية فجوة التمويل، كما أشار البنك إلى أن الصفقة توفر تدفق العملات الأجنبية للبنك المركزي المصري، وتحقيق سيولة كافية، متابعًا: (نتوقع حدوث انخفاض حاد في طلب المضاربة على العملات الأجنبية، في السوق الموازية للاقتصاد المصري).. وأفاد بأن الصفقة المبرمة بين مصر والإمارات، بشأن رأس الحكمة تتيح الفرصة أمام السوق المصريّة؛ لاستعادة السيولة في سوق العملات الأجنبية... وهنا، يجب التأكيد أن تخفيف حدة الضغوط على طلب الدولار، سيسهم في تقليص سعر الدولار في السوق الموازية، ويُتوقع أن يشهد مزيدًا من التراجع خلال الفترة المقبلة، بما يسمح للبنك المركزي بخفض (متواضع نسبيًا) لسعر الجنيه الرسمي، مما قد يُسهِّل التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لزيادة برنامج التمويل الموقع في ديسمبر 2022 لأكثر من ثلاثة مليارات دولار، ويتوقع أن تبلغ القيمة الجديدة ما بين سبعة إلى عشرة مليارات دولار، حسب رؤية بنك جولدمان ساكس.. ومن المتوقع تراجع سعر الذهب أيضًا في مصر، في حال استمر تراجع الدولار في السوق الموازية، حيث انخفض سعر الجرام عيار 21 بنحو مائة وخمسين جنيها، بعد الإعلان عن تفاصيل المشروع وتراجع سعر السوق السوداء.. كما أن توافر الدولار في البنوك لسداد الالتزامات والتوصل لاتفاق مع صندوق النقد، سيسهم في تخفيف أزمة تكدس شحنات البضائع في الموانئ المصرية، مما ينتج عنه زيادة المعروض من السلع في الأسواق، وكبح التضخم والسيطرة على ارتفاع الأسعار.
■■ وبعد..
فمن المهم الإشارة إلى تغريدة لرجل الأعمال الإماراتي، خلف الحبتور، (إن إعلان المبادرة الاستثمارية التاريخية بين الإمارات ومصر، شكَّل حافزًا كبيرًا لدى عدد كبير من رجال الأعمال للاستثمار في أرض الكنانة ـ مصر.. إن تشجيع رجال الأعمال للاستثمار يبدأ بوضع أسس منطقية وواقعية لأي عملية تهدف لإنجاح الاستثمار، وليس العكس.. وهنا، أجدد رغبتي بالاستثمار في فندق ريجال هايتس، الذي تم عرضه علينا في منطقة العلمين السياحية).. وكان هذا الرجل، قد سبق ودخل في مفاوضات، وقت احتفالات افتتاح منطقة العلمين الجديدة، للاستثمار في عدد من أبراج ريجال هايتس، وقال إنه فوجئ بسعر يتعدى المنطق والخيال.. كأنه عاد وأكد أن ما تعرضه مصر، يستحق قيمته.. ويبقى الجديد، أن هناك تحالفًا سعوديًا يستعد للاستثمار في مدينة الضبعة و(رأس جميلة) بشرم الشيخ، وتحالف إماراتي آخر للاستثمار في مدينة جديدة، على الساحل الشمالي الغربي لمصر.. ومازالت أنهار الخير تتدفق على مصر، لتحقق نصرًا اقتصاديًا تكتيكيًا للدولة، يجب أن يتحول إلى نصر إستراتيجي، على المدى القريب.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.