رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهاية "دافوس" و"الثقة" المُفتقدة في "عالم منقسم"!

انتهت مؤخرًا أعمال "المُنتدى الاقتصادي العالمي"، الذي عُقد لقائه السنوي في الفترة من 15 ـ 19 يناير الماضي في مُنتجع "دافوس" السويسري. وهو حدث مُهم يجتمع فيه، منذ دورته الأولي عام 1971، أساطين المال والصناعة والتكنولوجيا والسياسة، وأغلبيتهم تنتمي إلى العالم الرأسمالي، للتباحث حول المُشكلات والقضايا ذات الطابع الإستراتيجي، التي تهم صُنَّاع القرار في الغرب بشكل رئيسي، والتي تؤثر على دولهم ومُجتمعاتهم. 
وقد اختار المؤتمرون، الذين كان من أبرزهم أكثر من 60 رئيس دولة ومسؤول كبير (منهم رئيس فرنسا "إيمانويل ماكرون"، ورئيس إسرائيل "إسحق هرتسوغ"، والرجل الثاني في القيادة الصينية "لي تشيانج"، ومُمثلة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" ووزير خارجية الولايات المتحدة "أنتوني بلينكن"، ومستشار الأمن القومي "جيك سوليفان"، والمبعوث الرئاسي الخاص للمناخ "جون كيري وآخرين)، فضلًا عن عددٍ مُهم من كبار رجال المال والاقتصاد والصناعة والدبلوماسية والإعلام، بينهم ممثلين لدول عربية (من بينهم "سامح شكري" رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني)، إضافةً إلى أكثر من 1600 من قادة الأعمال، بما في ذلك 800 من كبار الرؤساء التنفيذيين، ونحو 150 من المُبتكرين العالميين، ورواد التقنية في طليعة الصناعات التحويلية، وغيرهم!
اختار منظمو المؤتمر عنوانًا لمناقشاته هذا العام شعار: "بناء الثقة في عالم منقسم"! وهو شعار موحٍ يعكس الهم الغربي الأول هذه الفترة، والمُتمثل في رأب الصدع وجمع الشتات العالمي المُمزق، بعد عقود من "الاستقرار النسبي" في أعقاب تفكُّك المنافس الرئيسي: الاتحاد السوفيتي و"الكتلة الاشتراكية" أوائل تسعينات القرن الماضي. 
وقد شغلت المشكلة الاقتصادية ـ بأبعادها المُتعددة ـ جانبًا كبيرًا من أعمال وحوارات المجتمعين، الذين لمسوا مظاهر تباطؤ النمو الاقتصادي، وأزمة الارتفاع الطردي في تكاليف المعيشة، وسط ارتفاع أسعار الفائدة بشدّة، وهو ما يعانيه القطاع الأعظم من المواطنين في شتي بلدان العالم، حتى في الدول الرأسمالية التي كانت تتمتع بمستوى حياتي أعلى وأكثر استقرارًا. 
كما انعقدت دورة هذا العام من المؤتمر، فيما العالم، الذي يحيا في ظل حربين مُستعرتين في أوكرانيا وغزة، يشهد تفاقم مظاهر الأزمة الرأسمالية العالمية، بما صاحبها من تباطؤ اقتصادي، وتضخم، وارتفاع غير مسبوق في الديون، واتساع هائل في مسار تركُّز الثروة والسلطة حيث التباين غير المسبوق بين ثروات بضعة أفراد يتحكمون في اقتصاد العالم، ونحو خمسة مليارات من الجوعى والفقراء يعانون من شظف الحياة في شتي أرجاء المعمورة، بل وحتى في الدول المُتقدمة ذاتها؛ وهو ما دفع البنك الدولي، مؤخرًا، إلى التحذير من  أن "الاقتصاد العالمي في طريقه لإنهاء عام 2024 كأبطأ نصف عقد من نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ 30 عاما"؛ رغم النمو الملحوظ في اقتصاديات الولايات المتحدة، حيث  امتدت نيران هذه الأزمة حتى طالت دولًا أوروبية مُتقدمة، منها العملاق الاقتصادي: ألمانيا، إلى الحد الذي سمح بإطلاق وصف "رجل أوروبا المريض" عليه!، وهو ما يعني أن أفق المستقبل المنظور يحمل في طياته متاعب كبيرة، خاصةً في ظل تباطؤ نمو الصين، ثاني أكبر اقتصادات العالم، (وأكبرها في بعض الحسابات) والتطورات السلبية المُرتبطة بتفاقم الديون، وتعثر مُخططات التنمية الاقتصادية في العديد من بلدان أفريقيا وآسيا، وغيرها من الأوضاع المعروفة.
وهناك قضية أخرى نالت اهتمامًا ملحوظًا في المُنتدى، وهي القضية الخاصة ببحث "مستقبل ومخاطر الذكاء الاصطناعي"، في ظل التطور المُذهل في هذا الفرع من فروع المعرفة الفائقة والصناعات التكنولوجية الراقية، وفي حين ارتأى جانب من رجال الأعمال التنفيذيين أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يُعزِّزَ الإنتاجية ويُخفض من مهام الأعمال ذات الطابع الروتيني، حذَّرَ آخرون من السرعة الهائلة لتطور هذا القطاع؛ قياسًا إلى وتيرة حركة المُنظمين، الأمر الذي بات يهدّد بطرد ملايين العاملين من وظائفهم، كما تُهدد إمكانات هذا المجال المُتفوقة بنشر المعلومات المُضللة، والخروج عن سيطرة البشر، وتسمح للآلات الذكية، المتوائمة مع هذه التكنولوجيا، باتخاذ قرارات حاسمة من تلقاء نفسها، تضر ضررًا جسيمًا بالتحكم الإنساني ومُستقبل المعمورة، وإن تواجدت آراء أكثر تفاؤلًا، جسَّدتها مُداخلة "فام مينه تشينه"، رئيس وزراء فيتنام، الذي أعلن أنه: «بغض النظر عن مقدار ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، لايزال البشر هم العامل الحاسم. ويتعين علينا أن نُركز على تدريب الموارد البشرية، خصوصًا العُمَّال ذوي المهارات العالية". 
وإذا كانت الصفة الرئيسية للمُنتدى هو الحوار الاقتصادي بين الشمال والجنوب، والمُنتجين والمُستهلكين،... إلخ، فعلى مستو آخر، احتلت القضايا السياسية جانبًا مُهمًا من أعمال المؤتمر، لانعكاساتها المُباشرة على أوضاع الاقتصاد العالمي، وتأثيرها في استقرار "سلاسل التوريد"، ودوران عجلة الإنتاج العالمية، المُرتبطة ـ عضويًا ـ باستقرار أحوال الطاقة والممرات الدولية وسُبل النقل وغيرها. 
ولذا فقد احتلت قضية الحرب الروسية ـ الأوكرانية موقعًا بارزًا في المُنتدى، حيث عُقد اجتماعًا حاشدًا ضم مستشارو الأمن القومي في 83 دولة، ناقشوا اقتراحًا للرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي"، عرضه مدير مكتبه "أندريه يرماك"، الذي ركَّزَ في حديثه على ضرورة استمرار الدعم المادي وتدفق المساعدات الغربية، ومتمنيًا مُصادقة الكونجرس الأمريكي على ميزانية تشمل إمدادات عسكرية جديدة لكييف، واستعرض خطة لإنهاء الحرب من وجهة النظر الأوكرانية، رفضتها روسيا التي لم تكن مُمثلة في المُنتدى. 
كذلك فقد نوقشت قضية الحرب في غزة، والتطورات الاقتصادية الناجمة عن استمرارها؛ واحتمالات امتدادها إلى لبنان التي حذَّرَ الأمين العام للأمم المتحدة "جوتيريتش" من تداعياتها "الكارثية"، وخطر التطورات في البحر الأحمر وتهديده للملاحة الدولية، ووقائع "اليوم التالي" لانتهاء الحرب (الصهيونية العدوانية) على غزة، كما أجرى وزير الخارجية الأمريكي (بلينكن) لقاءات بعدد من المسؤلين العرب المُشاركين، وكذلك نوقشت قضايا الانتخابات القادمة في الولايات المتحدة والهند والاتحاد الأوروبي، وأوضاع المناخ وتطور الغوائل الطبيعية التي تُهدد الاستقرار البيئي العالمي.
ولعل كلمة وزير خارجية مالطا، "إيفارست بارتولو"، كانت واحدة من أوضح وأصرح الكلمات التي صدرت عن مسؤول في المؤتمر، والتي تناولت، مُنتقدة الموقف الأمريكي، وتابعه الأوروبي، من العدوان الصهيوني على غزة وأبناء الشعب الفلسطيني: "إذا امتلكت وجهًا قبيحًا فلا تلم المرآة؛ وفي حالة "الأمم المتحدة" فالوجه القبيح ليس هو وجه "الأمم المتحدة"، وإنما موقف الولايات المتحدة الذي كان على مر السنين هو دعم إسرائيل، والسماح لها بفعل ما تشاء.. إن ما يحدث الآن هو أن الولايات المتحدة تُحب التجول حول العالم مُتنكرة بملابس حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والديمقراطية.. ولكن الإمبراطور لا يرتدي أي ملابس! أمّا "الاتحاد الأوروبي" فمن المثير للاهتمام أن كلمة "خصي" ( (EUMUCHتبدأ بحرفي (EU) أيضًا، لأنه في هذه الحالة كان "الاتحاد الأوروبي" مُجرد خصي في "حرملك" سياسة الولايات المتحدة"!
***
ومن المعروف أن هذا المؤتمر ليس معنيًا باتخاذ قرارات أو توصيات مُلزمة، لكنه بلا شك أشبه بموقع مُهم لإدارة "عصف ذهني" كوني بين أقطاب المال والسياسة في العالم، الرأسمالي بالأساس، واعترف عدد من المراقبين أن شعار هذه الدورة: "بناء الثقة في عالم مُنقسم"، هو أمر على درجة عالية من الصعوبة والتعقيد، وأن "توحيد" العالم، ورأب تصدعاته، واستعادة "الثقة" المفقوده ليس بالأمر الهيِّن، بل ويبدو أمرًا عصي على المنال في "العالم الأول".
***
هذا بالنسبة للعالم الأول، أمّا بالنسبة لنا ولأوضاعنا في العالم (الآخر)، فالوضع يختصره المثل الدارج المعروف: "لا يحك جلدك مثل ظفرك"!