رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محكمة العدل الدولية: الكيان عاريًا!

لعل بعضنا قد تيسرت له فرصة قراءة القصة القصيرة البديعة: "ملابس الإمبراطور الجديدة"، والمشهورة باسم "الملك عاريًا"، للكاتب الدنماركي المعروف "هانس كريستيان أندرسن "، والتي نشرها عام 1837، وهي تحكي قصة ملك "معجباني"، بالغ الاهتمام بأناقته، يقنعه حائكان مُحتالان بقدرتهما على حياكة ثوب خفي لا مثيل له، لا يراه إلّا الأذكياء، ومن لا يراه فهو ذلك الأحمق، ومُنعدم الذكاء والكفاءة، والذي لا يصلح لمنصبه! 
وبالطبع؛ فقد تباري كبار القادة والمسئولين وحاشية القصر في إطراء هذا الثوب الوهمي الرائع الذي لا مثيل له، والكل خائف من اتهامه بالحمق والغباء وانعدام الكفاءة والأهلية إن نطق بالحقيقة، إلَّا طفل برئ، هتف من قلب الجموع التي خرجت لكي تحتفي بمليكها وبثوبه الخفي الفريد، فيما الملك يتبختر مُختالًا، كما ولدته أمه. صاح الطفل مُندهشًا: "لكنه لا يرتدي أي ملابس على الإطلاق": "إنه عارٍ"! طارحًا قفاز الحقيقة في وجه أصحاب المصالح، وجموع المنافقين والمُدَّعين، والخائفين من قول كلمة الصدق، والجُبناء عن الاعتراف بالواقع!
تذكرت مضمون هذه القصة ودلالتها العميقة، وأنا أُتابع باهتمام وقائع جلسات مُحاكمة الكيان الصهيوني على أفعاله الإجرامية في حرب الإبادة الأخيرة للأشقاء الفلسطينيين في غزة وسائر أنحاء الأرض المُحتلة، وهي الجلسات التي عُقدت في أروقة محكمة العدل الدولية بـ "لاهاي" في هولندا، يومي 11 و12 يناير المُنصرمين، بمبادرة من دولة جنوب إفريقيا، في موقفٍ شُجاع يُسَجَّل لها في قلوب وضمائر كل أحرار العالم، بعد أن وقف العالم كله، عربًا وغربًا مُتفرجًا، إلَّا من رحم ربي، على أكبر جريمة "إبادة جماعية"، ومُمارسة عنصرية ضد شعب أعزل، استُشهد فيها وأصيب؛ واختفي تحت الأنقاض؛ أكثر من تسعين ألف مواطن فلسطيني، لا لشيىء إلّا لكونه فلسطينيا، فيجب إبادته، ونزع جذوره العميقة من التراب الفلسطيني إلى أبد الآبدين!
فعلتها دولة جنوب إفريقيا، وشعب "نيلسون مانديلا"، اللذان صاحا وسط غوغائيات "بايدن" و"نتنياهو" و"ماكرون" و"سوناك" و"شولتس" ومن لف لفهم، التي ما برحت تُسَوِّغُ؛ وتُبَرِّرُ؛ وتُزَيِّنُ؛ وتُجَمِّلُ أحط الممارسات الإجرامية، ربما في التاريخ الإنساني المُعاصر كله، فنزعا عن المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني الرداء، وكشفا أمام العالم أجمع عورته التي استطاع على مدى ما يزيد على القرن سترها بالوهم والخداع، وبدا "الملك" الصهيوني عاريًا أمام الجميع، لا يستره ساتر، ولا يجرؤ على الدفاع عنه إلا الأدعياء والكذوبون!
قدّم الطرف الجنوب إفريقي نموذجًا للإحاطة بالقضية، وشمولية الرؤية، وحُسن الإعداد، ومبدئية المواقف، وكشف وطَرَحَ ودحضَ من خلال مُداخلات ممثليه الوافية الُوَثّقة، نوايا ومُمارسات وأقوال وأفعال "نتنياهو" وجماعاته الإرهابية، وكيانه العدواني، وعصاباته اليمينية الدينية المتطرِّفة، وأوضح بالكلمة والصوت والصورة؛ نيّة الطرف الصهيوني المُبيّته على إبادة عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني الأبرياء العُزل، وطرد أكثر من مليوني فلسطيني ـ تحت وطأة التهديد والتجويع والترويع، إلى خارج التراب الفلسطيني المُحتل، وفي المقابل أتي دفاع ممثلي الكيان الصهيوني هشًِّا، مُتهافت الردود، هزيل الحُجج، مُفكك الأركان، ولم تسلم المحكمة، والدور الجنوب إفريقي في دعوتها للانعقاد، من التهجُّم الإسرائيلي الفظ، كدأب العالم بمُهاترات الإعلام الصهيوني ـ الأمريكي ـ الغربي المعهودة!
ويبدو القلق الإسرائيلي من النتائج المترتبة على مُجَرَّد عقد جلسات محكمة العدل الدولية؛ والتَحَسُّب من نتائجها المُتوقعة؛ بلا حدود، وتعمل الأوساط النافذة فيها على "محو" و"إزالة" "أدلة" الجرائم البشعة التي حرَّضت على قتل وإبادة الشعب الفلسطيني، وتناثرت بلا حساب على لسان قادة الكيان الصهيوني، ومنهم "نتنياهو" ذاته، ودفع الهلع من المُحاكمة المُستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية، إلى مُخاطبة وزير الأمن القومي، الإرهابي "إيتمار بن جفير" ومطالبته بالحذف الفوري لكل صوره وتصريحاته التي تُحرِّض الإسرائيليين على التزود بالأسلحة لمواجهة الفلسطينيين والعرب، مُشيرة إلى أن هذه التصريحات "الهوجاء والغوغائية ستُستخدم ضد دولة إسرائيل، وضدك أنت، وإذا لم تقم بحذفها سنقوم بتوجيه لائحة اتهام ضدك"، وهو ما يعني محاولة الكيان محاولة "إعدام الأدلة"، والتنصُّل من تصريحات الوزير الدموي، وإلّا فالتهرُّب من تحمل تبعاتها، وهو أمر بالغ السذاجة: فالفضاء السيبراني يحتفظ في دهاليزه بكل كلمة منطوقة، أو مكتوبة دون أن يتمكن أحد من محو آثارها!
لقد تلقى الكيان الصهيوني ضربةً مُوجعةً في الصميم، بمجرد وقوفه موقف المُتهم أمام محكمة العدل، تنزع عنه وضعيته الاعتبارية المفروضة، التي خدعت العالم بـ "قدسيتها"، لقرنٍ كامل، نتيجة الهيمنة الغربية والأمريكية؛ الحامية للكيان الصهيوني باعتباره القاعدة العسكرية المُتقدمة في منطقتنا البالغة الأهمية، ودور وسائل الإعلام العالمية في الترويج لأسطورة الكيان الصهيوني ومُعجزاته الاقتصادية والعسكرية، ووضعيته كواحة للديمقراطية المزعومة في صحراء العرب القاحلة! 
وأخيرًا، فإن الموقف الرائع النبيل من شعب ودولة جنوب إفريقيا الصديقة، يستحق كل امتنان وتقدير. لقد عملا مُخلصين بوصية الأب القائد "نيلسون مانديلا"، والقائل فيها: "نعلم أن حريتنا منقوصة بدون الحرية للفلسطينيين"، وهو العهد الذي كرره الرئيس "سيريل راما فوزا": "إن الخطوة التي اتخذناها محفوفة بالمخاطر، فنحن بلد صغير، ولدينا اقتصاد صغير، وقد يُهاجموننا.. ولكننا سنظل مُتمسكين بمبادئنا، ولن نكون أحرارًا حقًا ما لم يتحرَّر الشعب الفلسطيني"!
نعم: "ولن نكون أحرارًا حقًا ما لم يتحرَّر الشعب الفلسطيني"!
..................
*الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري.