رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

7 أكتوبر 2023.. جردة أولية لحسابات المكسب والخسارة «1»

من السابق لأوانه الآن الادعاء بامتلاك القدرة على إجراء «جردة» نهائية لنتائج الحرب الطاحنة، الدائرة بقوة، والتى ما زالت، رحاها تدور حتى اللحظة فى قطاع غزّة ومناطق أخرى من أرض فلسطين المحتلة، ولكن مع مرور أكثر من شهرين ونصف الشهر على عملية «طوفان الأقصى»، أصبح بإمكاننا القيام ولو بجردة أوليّة لاستقصاء حسابات المكسب والخسارة، للشعب والأرض والقضية، وقبلها جميعًا للعدو الصهيونى المغتصب؛ وهو أمر ضرورى لإدراك الجدوى النضالية للعملية، على غرار دراسات الجدوى التى تجرى لأى عملية أو مشروع مُستهدف، تُحدد قيمته، وتُعيِّن إيجابياته وسلبياته، وبالتالى فوائده ومضاره، وترصد إجمالى عوائده، على كل المستويات.

ماذا خسرت القضية الفلسطينية، وماذا كسبت؟

الخسارة الرئيسية: تركَّزت الخسارة الرئيسية للمقاومة الفلسطينية فى ثلاث مسائل رئيسية.. الأولى: عدد الضحايا الشهداء من أهل غزة والبالغين نحو «١٩٠٠٠ شهيد»، ومن الضفة الغربية «٢٧٥ شهيدًا»، إضافة إلى عدد الجرحى والمصابين الذين يتجاوزون الـ«٥٠٠٠٠» شخص، وهناك ضحايا آخرون لا يزالون تحت الأنقاض، والذين لا يمكن حصرهم إلا برفع رديم الأبنية المدمرة.

والثانية: الأوضاع الخطيرة والمُهينة التى يتعرض لها نحو مليونين وربع المليون من المواطنين الفلسطينيين، الذين يعانون من تردى الأوضاع المعيشية، وفقدان كل أسباب الحياة: الماء والطعام والدواء والكهرباء والطاقة... إلخ، كما يتجمعون بلا موئل على الحدود المصرية نتيجة الدمار والتهديد الصهيونى، خاصة مع قدوم فصل الشتاء، الأمر الذى يهدد بجائحة إنسانية كُبرى!

والثالثة: التدمير الهمجى الذى تعرضت له البنية الأساسية لقطاع غزة: الطرق، المدارس، المستشفيات، المساجد والكنائس، المقرات الرسمية، المرافق... إلخ، وما زالت تتعرض، فضلًا عن المنازل التى تم هدمها وتُقدّر بنحو ٦٠٪ من منازل القطاع!

وبالطبع، فإن خسارة هذه الأعداد الكبيرة من الشهداء والمصابين ليست بالأمر الهيِّن، ولا يمكن- بسهولة- التغاضى عما تُسببه من آلام وأحزان لذويهم، ولكل آدمى يملك الحس الإنسانى الطبيعى، وكذلك فإن ما يعانيه أشقاؤنا الفلسطينيون، وهم يقاومون بالصدر العارى والبطن الخاوى، النازية الصهيونية، أمر لا يمكن قبوله، ويجب البحث عن حلول عملية وسريعة لمواجهة آثاره والحد مما يسببه من عنت ومعاناة.

لكن كل الشعوب التى تحرّرت لم تتحرر إلا بدفع ثمن نيلها الحرية والاستقلال، فالشعب الجزائرى قدَّم مليونًا ونصف المليون من الشهداء عربونًا للحرية، والشعب الفيتنامى دفع «ضريبة الحرية» ملايين عديدة من الشهداء فى مواجهة الاستعمار الفرنسى، والإمبريالية الأمريكية، والخلاص من وباء الصهيونية العنصرية لن يكون بالأمر السهل، لكنه أمل قابل للتحقق، وممكن الحدوث، خاصةً فى ظل التطورات المتسارعة على جبهات الصراع.

وفى المقابل حققت القضية مكاسب مهمة منظورة، أبرزها:

١- المكسب الأكبر الذى حققته القضية هو عودتها «المُجلجلة» إلى الحياة، بعد أن ظُنَّ- استعماريًا وصهيونيًا، بل وبنسبة كبيرة «عربيًا»!- أنها غادرت الوجود، بلا عودة، وأنه قد تم تهميشها وإهالة التراب عليها وإدارة الظهر لها ولأصحابها، فالكل مشغول عنها بطموحاته الخاصة، أو مأخوذ بحرب أوكرانيا وتطوراتها، والعدو مُنتشٍ لأن بعض النظم تهرول للارتماء فى أحضانه وطلب وده، فى مشهد بالغ الإهانة والبؤس، والسيد الأمريكى، «الأب الروحى» و«الراعى الرسمى» للعدو الصهيونى، يأمر فيُطاع!

٢- فجأةً، تتغير اتجاهات الأحداث، وتعود الرياح تدفع أشرعة المركب الفلسطينى وتحركه بقوة إلى الأمام فى الاتجاه الصحيح، وإذا بالقضية الفلسطينية تعود إلى صدارة المشهد العالمى، وفى صُلب اهتمامات العالم كله، وليس الشعب الفلسطينى وحسب، أو الأمة العربية وحدها، ويعرف الكون أن سلامه واستقراره رهن بحل هذه القضية، رغم أنف العدو الصهيونى ومن والاه!.

٣- كسبت القضية حفز فصائل المقاومة الفلسطينية على هجر الانقسامية اللعينة، التى أهدرت عقودًا من كفاح شعب فلسطين وتضحياته، ودفعتهم للتشتت والفُرقة، والضعف والاستنزاف، ووجهت البندقية الفلسطينية لا إلى صدر العدو المُشترك، وإنما لنحر الأخ والرفيق، وقد حققت عملية «طوفان الأقصى» جانبًا مهمًا من هذا الهدف الذى طالما تمنى المخلصون للقضية تحقيقه.

٤- فضحت المعركة ادعاءات وأكاذيب سياسة «سلام الشُجعان» التى تراجعت بالقضية إلى حد الانبطاح، وحققت الإفاقة من غيبوبة «السلام الأمريكانى»، «Pax Americana»، الكاذب، والبريق الخادع لآلات التصوير، ووهم «السلام» الكاذب مع العدو، وسياسات التهادن، والتنازلات المتتالية عن الحق، والتراجعات «الرسمية» العربية والفلسطينية، التى قادت الأمور إلى وضعية الانفجار، وبدَّدت تضحيات هائلة على مدى أجيال من العطاء والممانعة.

٥- كسبت القضية- فى المقابل- استعادة اليقين بفاعلية «الكفاح المُسلَّح»، وأعادت الاعتبار لشعارات «حرب الشعب» و«دور الجماهير» فى تحرير أرضها وصياغة مستقبلها، بعد أن كادت كل هذه الشعارات النضالية، التى حرَّرت شعوب العالم وبنت أمجادها الكبرى «فى الصين وفيتنام وجنوب إفريقيا والجزائر، وقبلها فى روسيا ودول أخرى عديدة»، تُدفن هى الأخرى مع التراجع العام لأوضاع القضية!

٦- أبرزت المعركة، مجددًا، حقيقة المعدن النفيس للشعب الفلسطينى الصامد، المتمسك بحقوقه التاريخية الثابتة، والذى لم يخضع لمنطق القوة، أو ممارسات الاستقواء والبلطجة الصهيو- أمريكية، ولم يتنازل، حتى وهو يتعرض لأشرس وأحط أنواع الحروب الهمجية، عن حقوقه، أو يقبل المساومة، ورآه العالم كله يواجه المحنة بثبات الأبطال الذى عزَّ نظيره، فاحترم ثباته، وتمسُّكه بأرضه، ونُبل مواقفه.

٧ - بناء على ما تقدَّم، كسبت القضية الفلسطينية، وللمرة الأولى فى تاريخها الممتد، هذا الزخم العالمى من الشعور بالتضامن، والانتماء للقضية الفلسطينية العادلة، الذى عمَّ العالم، وأجبر قادة الغرب صوت الشعوب المُصرّة على عدم تجاهل الحق الفلسطينى، وآية ذلك مظاهرات الدعم لفلسطين وشعبها فى أغلب بلدان العالم، ومن كل الاتجاهات- بمن فيها اليهود المعادون للصهيونية- والمواقف التى انتشرت على مواقع الـ«سوشيال ميديا»، والعامرة بأشكال الدعم للقضية الفلسطينية، والعداء للممارسات العنصرية، وقد أظهرت الاستطلاعات المحايدة تراجع التأييد للمواقف الإسرائيلية إلى أقل من ٥٪ من استجابات الرأى العام العالمى، مقابل ٩٥٪ من التأييد لقضية فلسطين وحقوق شعبها، وأربك هذا الاستقطاب الكبير القيادات الانتهازية الغربية، التى وجدت نفسها، للمرة الأولى، محشورة بين سندان المصالح الاستعمارية- الإمبريالية من جهة، ومطرقة الجماهير المتعاطفة مع القضية الفلسطينية من جهة أخرى.

٨- أما على الصعيد العربى، فقد استعادت القضية، مجددًًا، الوضعية التاريخية المميزة لها؛ باعتبارها «القضية المركزية» للأمة العربية، بعد أن كانت قد تراجعت بقوة فى العقود الأخيرة، لصالح الاهتمامات المحلية، والانشغالات الخاصة. وأهم ما فى هذه الظاهرة الملحوظة بقوة أنها فجَّرت مشاعر التضامن والتساند بين الملايين الغفيرة من الجماهير الشعبية، خصوصًا الشباب العربى، «ولنلاحظ- على سبيل المثال شباب مباريات كرة القدم، ورفعهم أعلام فلسطين، والهتاف المُدوى لها، فى مدرجات الملاعب الكبيرة، من المحيط إلى الخليج، ومظاهرات طلاب الجامعات فى كلياتهم ومعاهدهم»، وهو ما يعنى أن راية النضال من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية والعربية لن تسقط أبدًا. 

ومكمن القيمة فى هذا الأمر، أن هذه الأجيال من شباب الأمة العربية هى التى وُلدت، ونما وعيها وسط موجات الترخُّص والدعاء والترويج لأوهام «السلام» و«التطبيع» مع العدو، ونشر تلفيقات «الديانة الإبراهيمية» وما شابه من تُرَّهات، وأخطر ما فى هذه الظاهرة من إشارات ودلالات هى أن المشروع الصهيونى، سيواجه- فى المستقبل- أجيالًا وراء أجيال، من الكارهين المقاومين، الذين سيستكملون مسيرة تحرير فلسطين، ونضالات إزالة «أبارتايد» التوحش الصهيونى؛ مهما استغرق من وقت، واحتاج من جهد، حتى التحقُّق!

٩- كشفت المعركة، بوضوح قاطع عن موقف بعض النظم، وأزاحت الستار عن حقيقة انحيازاتهم الفاضحة، خاصة الدول التى اتخذت مواقف علنية مكشوفة فى صف العدو الصهيونى، ضاربةً عرض الحائط بكل قيم الوطنية والقومية، بل والقيم الإنسانية العامة، التى تأبى القبول بحروب الإبادة الجماعية، والتدمير الشامل، والصهيونية، التى تُشن بوحشية ضد الشعب الفلسطينى الأعزل، مهما كانت الذرائع والتعلّات!

١٠- من أهم نتائج هذه الحرب أنها وجَّهت ضربة عميقة لمشاريع تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيونى المغتصب، ودول الخليج، التى كانت ستمثل- فيما لو اكتملت- طعنة نافذة فى صميم القضية الفلسطينية، واعترافًا نهائيًا بأحقية المشروع الصهيونى فى اغتصاب الأرض الفلسطينية السليبة، والتسليم بطرد أصحابها إلى مصيرهم المأساوى، وإغلاق ملفها- كما يتصور صُنَّاعه- مرةً وإلى الأبد!

١١- التأكيد على الدور الكبير لوسائط الـ«سوشيال ميديا» وقدرتها- رغم كل القيود- على نشر جانب ملحوظ من «الصورة الحقيقية» لما يجرى على أرض الواقع من أحداث، مُتجاوزة تعتيم المصادر الإعلامية التقليدية «الإذاعات، البث التليفزيونى، الصحافة... إلخ»، المملوكة فى مجملها، والخاضعة لسيطرة وتوجيه لقوى المالية النافذة، والمُعادية لمصالح شعوبنا وأوطاننا.. «يتبع».