رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النتائج الاقتصادية لحرب الإبادة الصهيونية

قبل اندلاع حرب «طوفان الأقصى» فى السابع من شهر أكتوبر الماضى، كانت شوارع وميادين الكيان الصهيونى مسرحًا لحركة احتجاجات جماهيرية واسعة استمرت لنحو عام ونصف العام، شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين الغاضبين، احتجاجًا على سعى الحكومة اليمينية المتطرفة، برئاسة «بنيامين نتنياهو»، إلى فرض تغييرات جوهرية فى سلك القضاء، تمكنه من استصدار قوانين جائرة، اعتبرتها قطاعات واسعة من المحتجين تهديدًا صارخًا للممارسة «الديمقراطية!» غير مسموح به، وتغوُّلًا من السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية لا يمكن قبوله.

وسرعان ما تأثر الوضع الاقتصادى الإسرائيلى بتداعيات هذه الأزمة، خاصة فى قطاع التكنولوجيا الفائقة «الهاى تك»، القطاع الأكثر أهمية ورفاهة فى الكيان، الذى يوظف أكثر من ٤٠٠ ألف خبير ومتخصص وعامل ماهر، يشكلون ١٠ بالمئة من إجمالى العمالة المتخصصة والخبيرة والماهرة فى الكيان، حسب تقرير «هيئة الابتكار»، التابعة لوزارة الاقتصاد الإسرائيلية، ويستجلب أكثر من نصف عوائد التصدير الصهيونية للخارج، منذ عام ٢٠٢١.

وقد أدت تلك الأزمة إلى دفع شركات رائدة فى هذا القطاع إلى البدء فى تحويل استثماراتها وموظفيها، والاتجاه إلى مواطن بديلة أكثر أمنًا واستقرارًا، منها شركة «Verbit»، المُقَيَّمة بأكثر من مليارى دولار، وشركة التكنولوجيا الفائقة العملاقة «Papaya Global»، وكذلك شركة «ريسكيفيد»، التى سحبت مئات الملايين من الدولارات وعرضت على الموظفين الانتقال للعمل فى فرعها بالعاصمة البرتغالية لشبونة، احتجاجًا على «خطة حكومية للمس بالقضاء»، واستنادًا إلى أن تمرير «الإصلاحات القضائية» يعنى أن القضاء سيصبح ألعوبة بيد أى حزب يحكم إسرائيل، وأن هذا القضاء سيفقد استقلاله؛ وبالتالى يخلق بيئة غير مناسبة للاستثمار لأن المستثمر فى حاجة إلى قضاء نزيه وقضاء محايد!

وصاحب هذه الأزمة الكبرى تدهور ملحوظ فى قيمة الشيكل مقابل الدولار إلى القيمة الأدنى منذ عام ٢٠١٥ «الدولار الآن = ٣.٩ شيكل»، ما أجبر «البنك المركزى» على تخصيص حزمة «غير مسبوقة بقيمة ٤٥ مليار دولار للدفاع عنه»، وهو يتجه نحو «أسوأ أداء سنوى له هذا القرن».

ولفت الأنظار بروز ظاهرة «هجرة الأدمغة»، مثل الأطباء المتخصصين، وغيرهم، إلى الخارج بحثًا عن ظروف أفضل وأكثر استقرارًا، كما استمرت وتيرة التضخم فى الارتفاع؛ ما أجبر «البنك المركزى الإسرائيلى» على رفع سعر الفائدة للمرة التاسعة على التوالى! وهكذا، فحين تفاجأ الكيان وجيشه بعملية «الطوفان»، واندفع إلى حُمَّى الحرب الهمجية ضد الشعب الفلسطينى فى غزة، كان ينزلق إلى مستنقع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، التى حذرت وكالات التصنيف الائتمانى العالمية من عواقبها الوخيمة، خاصة إذا استطال أمدها، فهذا الوضع يقود إلى نزيف مالى دائم، ممثلًا فى ارتفاع الإنفاق، وانخفاض حصيلة الضرائب، والاضطراب الاقتصادى المتعاظم بفعل انعدام الاستقرار، وفقدان رأس المال البشرى والمادى.

ومن جهة أخرى، فإن اندلاع الصراع كان يعنى مباشرة، وبفعل طبيعة الجيش الصهيونى الخاصة، استدعاء كثيفًا لـ«قوات الاحتياط»، الأمر الذى يؤدى تلقائيًا إلى حدوث أضرار سلبية كبيرة فى قطاع الصناعات التكنولوجية المتقدمة، الذى يعتبر «المحرك الرئيسى للنمو»، حيث تقتضى أوضاع الحرب توجيه نحو ٣٦٠ ألف يد عاملة إلى ساحة القتال «١٠٪- ١٥٪ من إجمالى الأيدى العاملة»، الأمر الذى دفع ما يقرب من ٧٠٪ من أهم ٥٠٠ شركة من شركات التقنية العالية الإسرائيلية «من بينها شركات محلية وأخرى متعددة الجنسيات» إلى تأجيل أو إلغاء المشروعات المهمة وذات الأبعاد الاستراتيجية.

وأعلن الرئيس التنفيذى لشركة «ستارت أب نيشن سنترال»، «آفى حسون»، عن تأثر شركات «الهاى تك» فى الكيان باستدعاء جنود الاحتياط، وأن مستوى التأثر أكبر فى الشركات الناشئة التى تميل إلى توظيف العاملين الأصغر سنًا. وكانت الاستجابة السلبية لتفجُّر وقائع الحرب أسرع فى قطاع السياحة، ذى الحساسية الشديدة لأجواء الصراعات والصدامات، حيث قُدِّرت الخسارة المباشرة لخدمات النقل والسفر بنحو مليار دولار عام ٢٠٢٣، وتوقَّعت حوالى نصف الشركات، فى استبيان حديث، انخفاض إيرادتها بنسبة ٥٠٪. 

وبشكل عام «انهار» استهلاك الأسر، الأمر الذى تسبب فى صدمة كبيرة لقطاع المستهلكين «الذى يُمثل نحو نصف الناتج المحلى الإجمالى». ويضاف إلى ما تقدم «التكاليف غير المباشرة» للحرب، ومنها تكاليف استيعاب نحو مائتى ألف مستوطن هربوا من الجنوب إلى الشمال توقيًا لمخاطر القتال، وتتمثل هذه التكاليف فى أعباء تركهم أعمالهم، واستقبالهم وإعاشتهم فى مرافق بديلة، والخسائر المترتبة على هجرتهم أعمالهم، وهذا «النزوح السكانى»، كما يقول أحد الخبراء: «سبب شللًا للعديد من الأنشطة الاقتصادية، وهو ما أكد أن عدد الإسرائيليين لا يكفى للقيام بالأنشطة الاقتصادية والحرب معًا»!

وبناء على ما تقدم، فقد خفض «البنك المركزى» توقعاته لمعدل النمو هذا العام بما يقرب من الربع «من ٣٪ إلى ٢٫٣٪»، وقَدَّرَ «معهد التمويل الدولى» انخفاض احتياطى النقد الأجنبى المرتقب، فى «البنك المركزى الإسرائيلى»، بفعل تداعيات الأوضاع عقب اندلاع القتال، بحوالى ٢٠٠ مليار دولار إلى ١٥٠ مليارًا، أى بنسبة انخفاض ٢٥٪، ووصف «البنك المركزى الإسرائيلى» وضع الاقتصاد الصهيونى، بعد نحو شهر ونصف الشهر من اندلاع الحرب، بأنه يشهد حالة «اهتزاز» فى جميع القطاعات، ويتكبد تكاليف باهظة تبلغ ٦٠٠ مليون دولار أسبوعيًا، فضلًا عن تحميل الموازنة بعجز يبلغ نحو ٦ مليارات دولار خلال شهر أكتوبر وحده، فيما توقع وزير المالية الصهيونى، المتطرف، «بتسلئيل سموتريتش»، أن تبلغ تكلفة الحرب، إذا استمرت لستة أشهر، نحو ٤٥ مليار دولار، أى ما يوازى ١٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى. فيما وصفت وكالة «بلومبرج» أداء الأسهم الإسرائيلية باعتباره «الأداء الأسوأ فى العالم» منذ اندلاع الصراع، حيث خسرت نحو ٣٥ مليار دولار فى الأيام الأولى للحرب، ومعدل الخسائر يتصاعد مع مرور الوقت دون حسم. وهكذا، فإن هذه الحرب «الأكثر ألمًا فى تاريخ (إسرائيل) القصير»، والتى لم تنته، ولا يعرف أحد متى ستنتهى، «أرجعت، كما يقول الخبراء، الاقتصاد سنوات إلى الخلف، فإعادة إصلاح ما فسد لن تكون سهلة، والازدهار الاقتصادى سيكون أقل بسبب المطالبات الحالية برفع الإنفاق العسكرى والدفاعى، والأهم من ذلك أن الأمان الزائف الذى كانت الحكومة تسوِّق له أصبح مكشوفًا للمستثمرين، الذين بالفعل بدأوا ببيع أصولهم- بكثافة- خلال الأسابيع الماضية»!

المصادر: جريدة «الشرق الأوسط»: ٣ يونيو ٢٠٢٣، ٦ نوفمبر ٢٠٢٣، ٧ نوفمبر ٢٠٢٣.. وجريدة «الأهرام»، ١٠ نوفمبر ٢٠٢٣.