رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الترانسفير فى العقيدة الصهيونية (2): مصر: التحدى والاستجابة!

على امتداد التاريخ المصري، قديمه وحديثه، ارتبط الأمن الوطني المصري بالأمن القومي العربي، وكان أبرز تجليات هذا الارتباط الأهمية التي احتلتها حدود مصر الشرقية، التي منها أتت كل التهديدات الخارجية، وفيها، عبر ما عُرف باسم "البوابة الشرقية"، وقف حائط الصد المنيع لمواجهة كل التهديدات الخارجية أمامه، قبل أن يدنو من الحدود المُقدسة للبلاد، وهي المدخل الذي اعتبرها الفكر الاستراتيجي المصري مصدر الخطر وفي نفس الوقت صمام الأمان للوطن وبنيه.
 ويذكر التاريخ المصري اسم الكولونيل "سيف"، (أو "جوزيف أنتيلمي سيف- Joseph Anthelme Sève"، المعروف باسم "سليمان باشا الفرنساوي"، المولود عام 1788 بمدينة ليون الفرنسية، والذي قدم إلى مصر مع حملة "نابليون بونابارت" فظل بها واعتنق الإسلام)، وعهد إليه "محمد على" بمهمة تأسيس النواة الأولى من الضُبَّاط الذين سوف يعاونونه على تدريب الجنود المصريين من أجل تكوين جيش حديث، ثم عيَّنه  قائدًا للجيش، وظل مُحتفظًا بموقع القائد العام للجيش المصري في عهد "الخديو عباس"، كواحد من أبرز القادة الذين أدركوا هذه الرابطة العضوية التي لا انفصام لها، وعبَّروا عن ذلك المفهوم بمنظور استراتيجي واضح، بقوله: "إن أمن الشام يبدأ من جبال طوروس، وأمن جبال طوروس يبدأ من ممرات سيناء، وأمن القاهرة يبدأ من هذه الممرات.. إن القاهرة مفتاح الشام، والشام مفتاح المنطقة"، وتعبير "الشام" في تلك الآونة كان يتضمن سوريا وفلسطين ولبنان وقطاعات أخرى من الدول التي تكونت فيما بعد.
فغزوات الهكسوس والفرنجة والتتار، وغيرها من الحملات العسكرية الخارجية وآخرها حروب العدوان الصهيوني التي استهدفت اختراق المناعة المصرية، والنفاذ إلى عمق الدولة الأم عبر خاصرتها الحسّاسة، "البوابة الشرقية"- كانت تُواجه حائطًا منيعًا عصيًا على الاختراق، شُيِّدَ بالعرق والدموع والدم والشهادة، دفعت فيه العسكرية المصرية والشعب المصري تكاليف باهظة دون تردد، لإدراكهما للأهمية الجيو- استراتيجية العظمى لهذا الجزء الغالي من التراب الوطني.
وفي المُقابل، فعلى مدى نحو ثلاثة أرباع القرن لم تنقطع المحاولات الاستعمارية للتعدي على بوابة مصر باتجاه الشرق: أرض سيناء المصرية، تارةً بالاحتلال المُباشر، وتارةً أخرى- بعد أن تم دحره- بالترويج لمشاريع عبثية، تستهدف الخلاص من "القضية الفلسطينية" إلى الأبد، ودفنها حيّة في تراب سيناء، بترحيل من تبقَّى من "أصحاب الأرض الأصليين"، الشعب الفلسطيني، إلى صحرائها، والخلاص من إصرارهم على "العودة"، وبناء دولتهم المستقلة على أرضهم السليبة. 
ومن المعروف أن خطط دفع الفلسطينيين لهجرة أرضهم إلى سيناء ليست بالأمر المُستحدث، فهي خطط لصيقة بتكوين الكيان الصهيوني منذ اكتمال اغتصابه لقسم كبير من الأرض الفلسطينية عام 1948، فقد كان قادته، وفي مُقدمتهم أول رئيس للوزراء، "ديفيد بن جوريون"، يرى أنه لا أمل في استقرار الأوضاع وتحقيق الأمن لـ"إسرائيل" إلا بتطهيرها من "العرب" وترحيلهم إلى الدول العربية المحيطة! 
وفي عام 1956 طُرح مشروع "جيور آيلاند" الذي تضمّن ضم قسم من سيناء إلى قطاع غزة لكي يتسع للفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم إليه، مُقابل تعويض مصر بمنحها قطعة من صحراء النقب، وقد تم رفض هذا المشروع.
وأعاد "بنيامين نتنياهو" طرح نُسخة جديدة من مشروع تهجير الفلسطينيين لسيناء على الرئيس الأسبق "حُسني مُبارك"، وحسب تسجيل صوتي يعود إلى عام 2017، فإن "مُبارك" أشار إلى أن "التفكير في سيناء سيكون كالتالي: إسرائيل تدفع سُكَّان غزة إلى سيناء، وقد أخبرني (نتنياهو) بذلك ذات مرّة قبل رحيلي عن السُلطة بستة أشهر، وقلت له إنسى هذا الأمر، وأنه (أي مُبارك): لن يسمح له (لنتنياهو) بالتسبب في حرب".
ثم تَبَدَّى إصرار العرّاب الأمريكي (الراعي والحامي الرسمي للكيان الصهيوني) على طرح هذا المشروع والضغط من أجل تنفيذه، مع صعود "دونالد ترامب" الرئيس الأمريكي السابق إلى سُدة الحكم، عبر مشروع "صفقة القرن" الذي رفضته الجماهير الفلسطينية رفضًا قاطعًا.
وتجدَّد طرح هذا المشروع أخيرًا على لسان "ريتشارد هيتش"، كبير المُتحدثين باسم قوات الاحتلال الصهيوني، يوم 9 أكتوبر الماضي، ؛ناصحًا" مواطني غزة بالتوجُّه إلى مصر: "معبر رفح على الحدود بين غزة ومصر لا يزال مفتوحًا، وأنصح أي شخص يُمكنه الخروج القيام بذلك"! 
ثم جاء التهديد الأخطر للشعب الفلسطيني على لسان رئيس الوزراء الصهيوني الموتور "بنيامين نتنياهو"، في أعقاب "طوفان الأقصى"، حين أعلن: "إن ما ننوي فعله في أعدائنا سيتردَّد صداه لأجيال، وستتغير ملامح الشرق الأوسط"، ردًا على العملية.
وتضغط الأوساط الأمريكية، والأوروبية، والصهيونية، والمُتصهينة، على مصر، متصورةً إمكانية تركيعها، وفرض هذا "الحل المُستحيل" عليها، بالاعتماد استغلالًا لظروفها الاقتصادية الصعبة، وأوضاع المديونية المتراكمة لصندوق النقد الدولي، وغيرها من الجهات التابعة والخاضعة للهيمنة الصهيوـ أمريكية. 
غير أن هذه الأوهام، والتهديدات، والتحديات وجدت مقاومةً عنيدةً من مصر شعبًا وحكمًا، وما انفجار مظاهرات الغضب التي عمّت كل أنحاء مصر، وشاركت فيها كل قطاعات المجتمع وتوجُّهاته السياسية، إلا أحد أشكال الردود القاطعة التي تقول في نَفَسٍ واحد: "لا لتهجير الشعب الفلسطيني إلى سيناء، مهما كانت الضغوط والأعباء"، وقد أعلن الرئيس السيسي عن رفض مصر "لإجبار الفلسطينيين في غزة على التوجهُّ إلى شبه جزيرة سيناء"، مُعتبرًا أن "الحصار الإسرائيلي على غزة، بما في ذلك تقييد المياه والغذاء والوقود، ومنع تدفق المُساعدات الإنسانية إلى القطاع بمثابة خطط لطرد الفلسطينيين إلى مصر"، وأن "مثل هذه الجهود، في النهاية، ستؤدي إلى توسيع رقعة الصراع".
ويأتي في هذا السياق الموقف الفلسطيني الصلب، الذي أعلنته كل تمثُّلات الشعب الفلسطيني وهيئاته الرسمية والنضالية، رغم هجمات البربرية الصهيونية وحملات الإبادة المُمنهجة: "لا للتهجير القسري وسنظل صامدين على التراب الوطني، مهما كانت التضحيات، حتى تحريره النهائي".
وتتحرك مصر على أكثر من محور لدعم صمود أبناء غزة، والبحث عن مخارج للأزمة توقف المذابح الصهيونية، وتحقن الدماء التي تسيل بغزارة جرّاء العدوان الصهيوني المُستمر لأكثر من أسبوعين بلا هوادة، عبر تنشيط العمل الدبلوماسي بالاتصال المُباشر بقادة دول العالم، وعقد اللقاءات للتداول الواسع حول سُبل الخروج من الأزمة، والضغط لفتح المعبر من أجل إيصال مواد الإغاثة لمواطني غزة المُحاصرين، ومدهم بأسباب الحياة الضرورية، المحرومين منها بفعل الحصار الإجرامي المفروض من الجيش الصهيوني عليها، وهو توجُّه محمود بدأ يؤتي ثماره، وإن كانت حاجات الشعب الفلسطيني المكلوم أكبر مما قُدم لهم بكثير.
وتنضم مصر إلى الموقف الذي تتزايد الأصوات المُتبنية له عالميًا، بدعم صمود الفلسطينيين فوق ترابهم الوطني، والذي عبّرت عنه المظاهرات الحاشدة في كل البلاد العربية والدول الأجنبية، بما فيها: "أمريكا، إنجلترا، فرنسا، إيطاليا، واليابان" وغيرها من الدول المُتمترسة خلف الكيان الصهيوني، بل وعبّر عنه قطاع ملحوظ من مُعتنقي العقيدة اليهودية ذاتها!
إن الهدف الرئيس الذي يجب أن تتعاظم الجهود من أجل تحقيقه الآن هو الضغط من أجل منع ما تُهدد به المراجع الصهيونية، أي الاجتياح البري لغزة، مع ما يعنيه هذا الأمر من اشتعال أكبر قوة لفتيل حرب الإبادة العنصرية التي يشنها الاحتلال الصهيوني على أبناء الشعب الفلسطيني، ويصب- عمليًا- في إجبار الفلسطينيين على عبور الحدود المصرية قسرًا، بالمخاطر الفادحة المترتبة على هذا الوضع! 
وأخيرًا فنُجمل خُلاصة ما استعرضناه في هذا المقال، حول فلسطين، مفتاح بوابتنا الشرقية، ومعبر أمننا المصري، بما كتبه الدكتور "جمال حمدان"، مُستشرفًا ببصيرته العميقة مُستحدثات المُستقبل التي نحياها الآن: "لقد أصبحت فلسطين، في معنى حقيقي جدًا، بُعدًا أساسيًا في وجود وكيان ومصير كل دولة عربية. أصبحت- نكاد نقول- (جزءًا من سوريا)، و(جزءًا من مصر)، و(جزءًا من الأردن)، و(جزءًا من العراق).. إلخ، بمثل ما أن كلًا من هذه قد أصبحت (جزءًا) من فلسطين.. مصيرًا ومآلًا"، وهو ما تُثبت وقائع اللحظة الراهنة صدقه.