رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الترانسفير: من عصر «الحل النهائى» إلى زمن «الحيوانات البشرية» «1»

بعدما وصلت الأوضاع إلى ما وصلت إليه فى غزة، من دمار وقتل وحصار وتجويع يُمارسه الكيان العنصرى الفاشى الصهيونى ضد أبناء الشعب الفلسطينى، عاد الحديث مؤخرًا إلى تفعيل سياسة «الترانسفير» Transfer، ما يعنى «التهجير» الإكراهى، أو «الترحيل» القسرى، أو «الطرد» بالقوة، وغيرها من المترادفات الشبيهة، التى تشير جميعها إلى إجبار الملايين من أبناء الشعب الفلسطينى، من الباقين على أرض الأجداد، والمتمسكين بأهداب التراب الوطنى، على مغادرة بلدهم، وترك دورهم وملاعب طفولتهم، والتشرُّد فى بلاد الغير، يلتمسون العطف؛ ويستدرُّون الشفقة، مثلما فعل الملايين السابقون، الذين أُجبروا تحت وطأة إرهاب القوة الإسرائيلية الغاشمة على مغادرة ديارهم بعد «نكبة» 1948، وكذا فى أعقاب «نكسة» 1967، وما تلاهما من نكبات ونكسات.
والهدف، هذه المرة، مما نعايشه من مجازر لا مثيل لها على مجرى التاريخ الإنسانى الحديث، إحكام الحصار على مواطنى قطاع غزة «البالغين نحو 2.2 مليون نسمة»، وقتل من يمكن قتلهم بالصواريخ والغازات السامة وقنابل الغارات الجوية، وتحويل منازلهم إلى ركام ومقابر، وحشرهم بين خيارات صفرية مجرمة: فمن لم يمت بالسلاح، سيتم ترويعه وتجويعه وحرمانه من كل أسباب الحياة، وإكراهه على ترك أرضه مرغمًا، والفرار بعياله وحاله، قبل أن يدركه الموت ذو النجمة السداسية.
وفى الواقع فإن هذه السياسة، سياسة الترويع بالقتل والتدمير، المتبوعة بطرد أصحاب الأرض، والاستيلاء القسرى عليها، ليست بالسياسة المستحدثة، فهى نهج قديم قِدَم المشروع الصهيونى نفسه، أو الأصح قِدَم المشروع العقيدى اليهودى العنصرى المتأصل القديم؛ ففكرة «إبادة الشعوب الأخرى» وطردها «شر طردة»، كما يذكر البروفيسور «إسرائيل شاحاك»، هى «جزء من التراث الدينى اليهودى»، المُعبّأ بكراهية «الجوييم» أو «الأغيار» أو «الآخرين»، وبالذات من أصحاب الأرض التى يُزعم أن الإله منحها عطية مجانية لا راد لها لليهود وحدهم: فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا: «لنسلك أُعطى هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» سفر «التكوين» 15:18، «متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التى أنت داخلٌ إليها لتمتلكها، وَطَرَدَ شعوبًا كثيرة من أمامك، ودفعهم الرب إلهك من أمامك، وضربتهم فأنت تحرمهم (تُبيدهم). لا تقطع لهم عهدًا ولا تُشفق عليهم.. ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم... إلخ» سفر «التثنية» 7: ٥١.
وقد كانت هذه «الإرشادات المُقدَّسة» المصنوعة عمدًا، التى مُنحت سمات الاعتقاد والتبجيل، هى السياسات التى استخدمها الصهاينة فى صداماتهم مع «العرب» بكل جنسياتهم، الذين شبَّههم بعض قادتهم بـ«الصراصير»، فى الماضى القريب، ولم يتورع وزير الحرب الصهيونى الحالى «يوآف جالانت» على اعتبار قسم منهم «حيوانات بشرية»!
وقد اعترف «شلومو جازيت»، رئيس المخابرات العسكرية الأسبق، الذى كان يُوَصَّف كداعٍ من دُعاة «السلام الصهيونى» المزعوم، بأن: فكرة «الترانسفير» ليست فكرة جديدة، ولا تؤيدها جماعات هامشية فى إسرائيل. إن الاستفتاءات العامة واستطلاعات الرأى تُظهر أن الكثيرين من الإسرائيليين يؤيدون هذه الفكرة ويؤمنون بها. 
ويُرجع «جازيت» دوافع هذا السلوك إلى عاملين: الأول هو: «البروز الواضح لخطر المُشكلة الديموجرافية العربية/ الإسرائيلية»، أما الأمر الثانى، وهو جديد تمامًا فى نظر «جازيت»، بعد تفجُّر الانتفاضة الفلسطينية الأولى «ديسمبر 1987»، فيكمن فى: «صحوة مواطنى الأراضى المُحتلّة وانتفاضتهم، والقضاء على وهم إمكانية التعايش تحت ظل الحُكم الأجنبى»، «هآرتس، 2/3/ 1988».
وهذا النهج الهمجى من السلوك الإرهابى يستدعى للذاكرة الإنسانية، إن كانت لها ظلال من الوجود، ما كان يُسمَّى «الحل النهائى» فى عصر صعود واستفحال الممارسات العنصرية وجرائم النازية، للتخلّص ممن يعترض سبيلها من عقبات بشرية، حيث كانت سياسة «الترانسفير» أو «الحل النهائى»، أى «التهجير، والإبعاد، والإبادة»، أو باختصار «الإزاحة» من اعتراض طريق «البلدوزر» النازى الكاسح، وإجبار «الأعداء»، وهم هنا، فى الحالة العربية، كل من يقف حجر عثرة فى طريق تنفيذ «المُخطط الصهيونى»: «فلسطينيين، مصريين، لبنانيين، عراقيين...»- على ترك «الوطن»، إلى حيث يُلقى، بفعل القهر والقمع والقتل المُمنهج، دون أن يطرف لأصحاب القوة القاهرة جفن، ولِمَ لا وهذه هى عقيدة «الصهيونية الحقيقية» كما يلخص مسيرتها أحد أشرس دعاة سياسة «الترانسفير» الإسرائيلى، الجنرال الصهيونى العنصرى الأسبق «رحبعام زئيفى» بقوله: «إن الصهيونية الحقيقية ليست أكثر من تاريخ قرن من الزمان من الطرد، والمُحاولات التى لا تنتهى لإبعاد العرب عن البلاد»، مُلحق «عل همشمار» 25/11/ 1988.
وفى تلك الآونة، أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضى، اقترح «زئيفى»، فى أعقاب وقائع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، خطة تنفيذ برنامج «الحل النهائى» النازية مع أبناء شعب فلسطين، عبر تنفيذ ما أطلق عليه اسم «الترانسفير الإرادى»، الذى يضمن طرد أكبر عدد مُمكن من الفلسطينيين، بـ«خلق الظروف التى تدفعهم إلى خارج هذه البلاد، مع الاستعداد لاستثمار كل ظرف لتحقيق هذا الغرض».
ومن هذا الاستعراض المُرَكَّز لمفهوم «الترانسفير» فى العقيدة اليهودية الموروثة، ومعتقدات الصهيونية المستحدثة، نفهم لماذا يُجمع أبناء الشعب الفلسطينى الصامد على أرضه وترابه الوطنى، بكل قواه الحيّة، ورغم التجويع والقتل والتدمير، على رفض الإذعان لشروط «الحل النهائى» النازى الصهيونى، بمغادرة أرضهم، والقبول بالانتقال إلى معازل «الأبارتهايد الإسرائيلى» المُقترح، فى سيناء أو غيرها من المنافى، وإنهاء الحق التاريخى المشروع للفلسطينيين العرب باستعادة أرضهم السليبة، ولماذا تدعمهم مصر، شعبًا ودولة، وترفض تنفيذ «الحلم الصهيونى» التاريخى، الذى عبّر عنه «إسحق رابين»، «العسكرى الأبرز، ورئيس الوزراء الأسبق المُغتال» بقوله الصريح إنه يتمنى لو استيقظ من منامه فوجد البحر وقد ابتلع غزّة، بوجودها وسُكَّانها، مرّة وإلى الأبد؛ فقد كانت غزّة، دائمًا، وما زالت، الصخرة التى تعترض مؤامرة ابتلاع الصهيونية العالمية، المدعومة من الغرب الأمريكى الصهيونى، لكل فلسطين، وطى صفحة مقاومة شعبها إلى أبد الآبدين.

الأمين العام للحزب الاشتراكى المصرى