رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دروس وخبرات معركة "طوفان الأقصى" (1)

استيقظ العالم صبيحة الاحتفال بالذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973 على خبرٍ جلل: اقتحام أرتال من المُقاومين الفلسطينيين مُستعمرات "غُلاف غزة" ونجاحهم في اختراق صفوف الحواجز الإسرائيلية، البرية والجوية والبحرية، والنفاذ إلى عُمق هذه المستوطنات (المنيعة)، والسيطرة على عدد من مراكزها، بعد هجومٍ خاطف نجم عنه قتلى وجرحى صهاينة، عسكريون ومدنيون، من الجنسين، غير معروف عددهم، واحتفاظ المُهاجمين بأسرى إسرائيليين عديدين؛ تم نقلهم- على رءوس الأشهاد- من المُستعمرات الحدودية للكيان الصهيوني إلى شوارع قطاع غزّة، في مهرجان شعبي لا نظير له، واحتفالات جماهيرية فلسطينية غير مسبوقة، فجَّرتها نشوة رؤية عدو الشعب الفلسطيني والعرب التاريخي المُتَعَجرف، وهو يتهاوى مُرتعبًا ومصدومًا من هول الضربة المُفاجئة التي وجَّهتها إليه المقاومة الفلسطينية، الضربة التي وُجِّهَت لا لمستوطنات "الغلاف" المحمية العصية على الاختراق حسب الزعم الإسرائيلي وحسب، ولا للجيش الصهيوني المخدوع بقوته الوهمية فقط، وإنما لمُجمل المزاعم الصهيونية التى انبنت عليها كل المنظومة الاستعمارية الصهيونية، وارتكزت عليها "الأساطير المؤسسة" للمشروع الصهيوني الاغتصابي برمته، حسبما شرح "روجيه جاروديه"، في كتابه المُعنون بهذا الوصف سابقًا. 
وإذا كان من المُبَكِّرِ استباق الأحداث المتواترة للوصول إلى تقدير نهائي وحاسم لنتائج المعركة والخبرات المُترتبة عليها، إذ ما زالت ساحات النزال تشهد مواجهات ضارية، واشتباكات طاحنة بين عناصر المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي داخل مُستعمرات "غلاف غزّة"، بينما يدك الطيران الإسرائيلي غزة دكًا على رءوس ساكنيها، انتقامًا أعمى، ورغبةً في استعادة المكانة المُهدرة، فمن الضروري والمُمكن محاولة وضع اليد على عدد من دروس وخبرات معركة "طوفان الأقصى"، وهذه أبرزها:

1. قوة الإنسان، ومفهوم الإرادة
لم تُعاين البشرية المُعاصرة استعمارًا إحلاليًا أكثر ضراوةً وعنفًا في مواجهة شعب تحت الاحتلال، كما عاينت ما يحدث على الأراضي الفلسطينية المُحتلة من قِبل الجيش الصهيوني، الذي تفنَّن، مع الإدارة الصهيونية، في إهانة وإذلال، ونهب واستغلال ملايين الفلسطينيين، ومُمارسة كل "بدع" القهر النازية والفاشية في مواجهتهم، ظنًا أنهم بهذا يفرضون عليهم القبول بـ"الأمر الواقع"، وارتضاء حياة الهوان والمسكنة والضعة والخنوع!
لكن هذا لم يحدث، ورغم عِظم التضحيات وأرتال الشهداء وآلاف المُعتقلين، وتطويق جميع المناطق الفلسطينية بأحزمة الموت والانتقام، فإن الإرادة الفلسطينية كانت أقوى، وعزيمة المقاومة أكبر. 
والدرس الأول أن لا شيء يُمكنه أن يقهر قوة الكائن البشري على المقاومة وإرادة الدفاع عن مُقومات وجوده، و"اختراع" أساليب عظيمة من اللاشيء لتعظيم قدرته على حماية أحلامه وآماله المشروعة من الانتهاك، وهو درس سبق أن استخلصه الشعب المصري من مرارات ما بعد نكسة 5 يونيو 1967، والنجاح في تجاوزها- رغم فارق موازين القوى- في 6 أكتوبر 1973.  

2 ـ القدرة غير المحدودة للعقل الخلَّاق 
لا يُماري عاقل في تقدير الفارق الهائل في موازين القوى- على كل المستويات- بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، فالكيان الصهيوني يملك ما كان يوصف بأنه واحد من أحدث وأكفأ جيوش العالم، وبالغ الجميع في إطلاق أفضل الأوصاف على مسيرة تطوره وعناصر تكوينه، كما تباهت الأوساط الصهيونية والغربية وتبارت في إسباغ سِمات أسطورية عليه، كـ"الجيش الذي لا يُقهر"، وصاحب "اليد الطولى"، ومالك "القُبّة الحديدية"، وغيرها من النعوت والصفات، التى قُصد منها ترهيب المنطقة بأكملها، وترويع دولها بإشعارها أنها تواجه قوة فوق بشرية لا يُمكن مُقارعتها، وينبغي أن يخضع الجميع لإرادتها، وهو ما حدث حين هرولت دول عديدة للارتماء في أحضان إسرائيل، طلبًا "للأمن" و"الحماية"!
ثم جاءت المقاومة بأساليب "بدائية" لكنها مُفاجِئة، و"خارج الصندوق"، وعابرة لكل الأفكار الدارجة والتصورات النمطية، كالطائرات الشراعية البلاستيكية التي استُخدمت لعبور كل الموانع والطيران فوق الحواجز والجدران، وغيرها، فأهالت على هذه الأوصاف التراب، وظهرت الحقيقة الكاشفة حين جُرَّ الجنرالات الصهاينة بملابس النوم أسرى إلى حيث لا يعلمون!
وهذا هو الدرس الثاني الذي يُمكن استخلاصه من الوقائع الخطيرة التي ما زلنا نُعاين ونُعايش فصولها حتى لحظة كتابة هذه السطور!

3 ـ الحجر في يد البشر أقوى من كل تكنولوجيات العالم
وكما هو معروف، تملك دولة الكيان الصهيوني صناعات عسكرية مُتقدمة، وإنفاقها على البحث العلمي المدني والحربي أكبر من مجموع ما تُنفقه الدول العربية مُجتمعة في هذا الشأن، واعتمادًا على هذا الأمر اقتحمت أسواقًا عالميةً عديدة، وباعت، وتبيع أسلحةً مُتقدمةً بمليارات الدولارات سنويًا، وهي- على سبيل المثال- طوَّرت صناعات التقنية "السيبرانية"، ومنها الطائرات المُسيَّرة، بدون طيار (الدرونز)، التي رأينا أهميتها، وشاهدنا التوسُّع في استخداماتها، مؤخرًا، في الحرب الروسية الأوكرانية، ويوكل إلى مصانع إسرائيل، كذلك، تطوير الطائرات الحربية الأمريكية، وتحديثها بأكثر التكنولوجيات تطورًا.. إلخ. 
وفوق هذا كله، تُغدق الدول الغربية وفي المقدمة الولايات المتحدة، "الأب الروحي" والدول المُنشئة للكيان الصهيوني، على إسرائيل، كل أشكال الدعم المعنوي والمادي، وفي المقدمة الدعم بالسلاح، مثلما حدث في حرب أكتوبر 1973، حينما لاحت بوادر هزيمة إسرائيل، فمدَّت أمريكا جسرًا جويًا عاجلًا، لنقل الطائرات والعتاد الحربي إلى قاعدتها الصهيونية المُتقدمة في منطقتنا إنقاذًا لها من الهزيمة، واليوم نرى تحركًا مُشابهًا، بتحريك واحدة من أكبر حاملات الطائرات الأمريكية لحماية الربيب الصهيوني المُدلل!
غير أن هذا كله لم يشفع لها أمام قدرة العقل البشري على اجتراح المعجزات، واختراع ما كان يُظن أنه فوق المُمكنات: إن "الحجر في يد البشر أقوى من كل تكنولوجيات العالم"، وهذا هو الدرس الثالث من دروس هجوم "طوفان الأقصى"، الذي يتوجب أن يظل ماثلًا أمام أعيننا، أيًا ما كانت النتائج المترتبة عليه. (يتبع).