رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"عز الدين نجيب": هتاف الصامتين، ونزهة الناظرين


ندعو الله أن يَمُنَّ بالشفاء من الأزمة الصحية الحادة التي يتَعرَّضَ لها المثقف الوطني البارز، والفنان التشكيلي المُتميز، والمُبدع النبيل الأستاذ "عز الدين نجيب"، وهو، لمن لا يعرفه، فنان من طرازٍ خاص، جمع بين ثلاث ميزات نادرًا ما تجتمع في شخص واحد: الثقافة الرفيعة والوعي العميق، والمُمارسة العملية الواسعة، وتنوع أشكال الإبداع الأدبي والفني: "لوحات تشكيلية، قصة قصيرة، روايات، تحليلات ثقافية، مقالات ونقد أدبي وفني، تأسيس وإدارة المشاريع الثقافية، …"، ما جعل الراحل الكبير الأستاذ "صلاح عيسى" يصفه بأنه "يكتب باللون والكلمة"، ومن خلال هذه الأدوات المُتكاملة كان يبحث عمّا نحن في أمس الحاجة له الآن: "ثقافة وطنية ديمقراطية مُستنيرة، تبني مصر وكل أقطار عالمنا العربي- بالمدرسة والمصنع، وتحيل الوطن- كما بَشَّرَ (الطهطاوي)- قبل نحو مائة وخمسين عامًا- إلى محل للسعادة المُشتركة"، وهو بهذا، حري بالاحتفاء والتكريم، والاحتفال والتعظيم، ولو عبر استعادة بعض من ملامح دوره الريادي، وقسم مما قدمه لوطنه من عطاء، أسهم به- مُخلصًا ومُتحمسًا ومُتطوعًا- في ملحمة الدفاع عن ثقافة شعبه، ومصالح مواطنيه، والعمل من أجل تطوير وعيهم، وترقية إحساسهم بالفن والثقافة والمعرفة والجمال، ودافعًا الضريبة التي كُتب على مثقفينا الملتزمين بمصالح أمتهم أن يدفعوها: شقاءً ومعاناة، وعنتًا وتكلفةً!

وبهذه المناسبة البهيجة، أود أن ألقي إطلالة طائر على أحد الكتب المُهمة، التي سطَّرها الأستاذ "عز الدين"، وألقى عبر صفحاتها، ضوءًا كاشفًا على مساحة من مساحات عطاء هذه الشخصية الثرية، وجهدها المُقَدَّم في سخاءٍ وتواضعٍ ورضا.

الكتاب اسمه: "الصامتون: تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصري"، ويسرد الفنان "عز الدين نجيب" في هذا السفر المُهم، الصادر عام 1985، فصول قصة ملحمية لكفاحه مع نفر من المثقفين الوطنيين، برئاسة الأستاذ "سعد كامل" المثقف المتميز، الذي ترأس "هيئة الثقافة الجماهيرية"- هيئة قصور الثقافة فيما بعد- بتوجيه من الدكتور "ثروت عكاشة"، وزير الثقافة الأسبق، صاحب المُبادرات والدور التأسيسي للعديد من الأنشطة والمعاهد والمؤسسات الفنية والثقافية الرفيعة.
وقد كَلَّفَ "أ. سعد كامل"، في أعقاب صدور بيان 30 مارس، بعد أشهر من وقائع نكسة 5 يونيو 1967، الفنان "عز الدين نجيب"، بترأُّس "المركز الثقافي" الموجود بمحافظة كفر الشيخ، و"إحيائه وتحويله إلى قصر للثقافة"، وهو في الواقع لم يكن أكثر من هيكلٍ متداعٍ، فقير المحتوى، بائس الإمكانات، تُهيمن عليه إدارة متخلفة، بيروقراطية، همَّها الأول والأخير هو الحصول على رضى الموظفين الأعلى مرتبة، ولو بالانحناء وتقبيل الأيادي (!).

ورغم كل عناصر الإحباط المُحيطة، ومُعاكسات الأجهزة البيروقراطية التي ارتأت الخطر في النشاط الذي أخذ يدب في أركان المُحافظة الخامدة، بتأثير إشعاع هذه البقعة التي تحولت إلى مركزٍ لنشر المعرفة والثقافة والتنوير والانتماء، بين جمهور المثقفين الشباب في المحافظة، وبعضهم صار من أعلام المبدعين المصريين فيما بعد كالشاعر الكبير "محمد عفيفي مطر" وغيره، بل والأهم من هذا كان الحماس الشعبي للنشاط الفني والثقافي، الذي تبدَّى في الإقبال الواسع من جموع الفلاحين البُسطاء على مشاهدة أفلام السينما والمسرحيات، ومتابعة المعارض الفنيّة، وحضور الحفلات الموسيقية، والمُشاركة في الندوات وساحات الحوار، وهو أمر كان جديدًا بالمرّة، مما استدعى تحركًا سريعًا من القوى المحافظة اجتماعيًا وسياسيًا، والتأهب لانتهاز الفرصة من أجل الانقضاض على التجربة، ووأدها قبل أن يستفحل أثرها، وتضرب بجذورها عميقًا في طين الريف المصري.

غير أن تجربة الفنان "عز الدين نجيب" الثرية لم تنته بإجهاض التجربة الرائدة التي ترتبت على وجود عناصر واعية على رأس بعض أجهزة وزارة الثقافة، في تلك المرحلة الحرجة، والبطولية من تاريخ مصر المعاصر، وهي تُكابد من أجل مقاومة الهزيمة وإعادة بناء القوات المسلحة والاستعداد لمعركة استرداد الكرامة، وإنما دفع الثمن مرات ثلاث حين "شرَّف" زنازين المحابس، مُتهمًا بالتضامن مع حركات الطلاب في السبعينات، التي انطلقت ترفض نتائج "الخامس من يونيو" الكارثية، وتطلب الاستعداد لمعركة الثأر من العدوان والمعتدين، ومُعَاقَبًا على التعاطف مع نضالات البسطاء من  العمال والفلاحين ومحدودي الدخل، أو المثقفين الشرفاء، الذين تصاعدت مُعاناتهم مع انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي "انفتاح السداح مداح" بعشوائيته وفساده، أو حتى بدون سبب واقعي مُحدد ومنطقي، وهو ما سجَّله كتابةً ورسمًا في ألبومه البديع: "رسوم الزنزانة"، الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ 2014!

ورغم كل هذه العقبات فلقد استطاع فناننا الكبير، بعزيمة صُلبة، أن يستمر في العمل والإبداع والعطاء والإنتاج، في مناحٍ وظيفية عديدة، منها: العمل كمدير لقصر "المسافر خانة" ومُشرف على مراسم الفنانين من 1969 – 1976، ومدير لمشروع التنمية الثقافية لقرى مركز برج النور بالدقهلية، ومؤسس لمركز الجرافيك بوكالة الغورى، ومدير تحرير مجلة "الشموع"، ومؤسس ومدير عام لمُجَمَّع الفنون بمدينة 15 مايو، ومدير عام بمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية، ورئيس للإدارة المركزية لمراكز الإنتاج الفنى بقطاع الفنون التشكيلية، وأستاذ غير مُتفرغ لتاريخ الفن والتذوق الفنى بكليات الفنون الجميلة والتربية والنوعية بالقاهرة، ومركز إعداد القادة الثقافيين والرواد بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وجامعة عين شمس "بكلية الآداب قسم الدراما"، ورئيس لتحرير موسوعة الحرف التقليدية بالقاهرة التاريخية التى صدرت فى سبعة أجزاء، وأمين عام للمؤتمر الأول لنُقَّاد الفن التشكيلية، كما شارك منذ أوائل السبعينيات فى تأسيس جماعات وجمعيات ثقافية تتبنى موقفًا تقدميًا فى الثقافة والديمقراطية فى مجال الفن والأدب ومنها: جماعة "كُتَّاب الغد" "1970" جماعة "الطليعة" للفنانين "1969"، ومجلة "خطوة" بالاشتراك مع "يحيى الطاهر عبدالله" و"سيد البحراوى" و"حامد أبو زيد" و"بدر الرفاعى""1980- 1981"، وجمعية "أصدقاء المتاحف" "1991"، وأسس وأدار جمعية "أصالة" لرعاية الفنون التُراثية والمُعاصرة "1994"، كما أنه عضو مؤسس بنقابة الفنانين التشكيليين 1978 وعضو مجلس الإدارة بها من "1985 ـ 1989"، كما نشط كعضو مؤسس باتحاد الكُتَّاب "1975"، وسكرتير عام جماعة "أتيليه القاهرة" للفنانين ُ والكُتَّاب من "1977 ـ 1995" ورئيس مجلس الإدارة المُنتخب 1995، وعضو لجان المجلس الأعلى للثقافة منذ عام 1994 حتى 2016 "الفنون التشكيلية- الفنون الشعبية- الكتاب الأول"، ... إلخ.

وفي خضم كل هذه المعارك لم ينس الفنان الكبير "عز الدين نجيب" أبدًا، أنه فنان تشكيلي ومُبدع سلاحه الأول هو الريشة والقلم، فعُرضت أعماله في عشرات المعارض الفردية والمُشتركة، داخل مصر وخارجها، ونال العديد من الجوائز والتكريمات، لعل من أبرزها الحصول على "جائزة الدولة التقديرية" في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2014.

وحرصًا على إبقاء الذاكرة الثقافية والتشكيلية للفنون والإبداع المصري، محفوظة للتاريخ والأجيال الجديدة، كتب نحو خمسة عشر مؤلفًا عن عطاء وإسهامات مجموعة بارزة من أساتذة الفن التشكيلي المصري: "محمد عويس، محمود بقشيش، أبوالعينين الوشاحي، جميل شفيق، جاذبية سري ...إلخ"، فضلاً عن مجموعة قيِّمة من كُتب التأريخ للحركة التشكيلية المصرية ومنها: "فجر التصوير المصري الحديث"، و"موسوعة الفنون التشكيلية" بأجزائها الثلاثة، و"تحولات الفن عند مفصل القرنين"، .. وغيرها.

ورغم كل هاتيك المشاغل، وجد الوقت، الثمين للغاية، لكي يُسطر ويُصدر مجموعة قيِّمة من القصص القصيرة والروايات الطويلة: "عيش وملح (مجموعة مُشتركة)، أيام العز، المُثلث الفيروزي، أغنية الدُمية، نقطة صغيرة قُرب السماء، نداء الواحة، المسافر خانة"، فضلاً عن مجموعة مُهمة من الدراسات التي تناقش قضايا الثقافة والمثقففين في مصر، ومنها، إضافةً إلى الكتاب الذي أشرنا إليه، "الصامتون": "مواسم السجن والأزهار، الريشة والقلم والموقف، الثقافة والثورة، الثقافة والجسور المقطوعة، المثقفون والعسل المُر"، وجميعها تُناقش وضعية المثقف، ودوره، ورسالته، والمُعوقات التي تعترض طريق ترسيخ وجود الثقافة كعنصر فاعل في تكوين الهوية الوطنية والشخصية المصرية المُعاصرة، وأحد ركائز قوتها الناعمة وتأثيرها الفكري والوجداني.

قصدت من هذا الاستعراض المُكثف لنماذج من إسهامات القامة الثقافية الكبيرة، الأستاذ "عز الدين نجيب"، أن تعرف الأجيال الجديدة طرفًا من الأدوار المجيدة لهذه الكتيبة المُحترمة من المبدعين المصريين، الذين لم تحل الظروف، ولا المصاعب، بينهم وبين أداء دورهم الواجب، في الدفاع عن ثقافتهم النبيلة، وأفكارهم المُستنيرة، وعن رغبتهم في إتاحة نور المعرفة لذوي البصر والبصيرة في هذه الأرض الطيبة.

فلنبتهل إلى الله أن يشمل برعايته أُستاذنا الغالي "عز الدين نجيب"، والأُستاذين الكبيرين: المُفكر والمُترجم المُتميز الأستاذ "شوقي جلال"، والشاعر والأديب الراقي الأستاذ "أشرف عامر"، اللذان يمران بظروف مُشابهة، وأن يعودوا جميعاً لنا مُعافين سالمين، لاستكمال رحلة عطائهم النبيلة من أجل الوطن والناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري.