رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفكر «الكهنوتى» والميثاق العالمى لحقوق الإنسان

بالطبع من أجل كأس العالم، سينسى العالم الاحتفال اللائق بيوم 10 ديسمبر، الذى يوافق هذا العام الذكرى الـ74 لإصدار واعتماد الميثاق العالم لحقوق الإنسان 1948م.
ترجع أهمية هذا الميثاق إلى أنه يترجم خير وأبدع مشاركات العقول العالمية فى مجالات القانون والثقافة والأديان، وأنه يضع منهاجًا عالميًا لحماية حقوق الكرامة والحرية والسلام والترفيه والخصوصية والتعبير عن الرأى وغيرها للأفراد فى جميع البلاد، ولكل الشعوب.
كانت اليانور روزفلت 11 أكتوبر 1874 - 7 نوفمبر 1962، هى رئيسة اللجنة العالمية لصياغة ميثاق حقوق الإنسان، والذى تضمن 30 مادة للحرية والكرامة الإنسانية، ويرجع الفضل إلى هانسا ميهتا - الهند - 3 يوليو 1897 - 4 أبريل 1995، فى تغيير الفقرة التى تقول: "وُلد جميع الرجال أحرارًا".. إلى "وُلد جميع البشر أحرارًا"، حتى يتخلص الميثاق العالمى لحقوق الإنسان، من اللغة الذكورية التى تقهر النساء - نصف العالم - حتى فى اللغة المصاغ بها، وهذا فخر كبير، وشرف، لامرأة هندية لا تُذكر كثيرًا.
إن اليانور روزفلت، باعتبارها كانت السيدة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية من عام  1933 حتى عام  1945، كان لا بد أن تحظى بمزيد من الاهتمام وتسليط الضوء عليها، أكثر من أى عضو أو عضوة أخرى، فى هذا الحدث التاريخى العالمى الهام، ورغم كل الأهداف النبيلة التى تتضمنها الـ30 مادة فى هذا الميثاق إلا أن هناك بعض الدول التى امتنعت عن التصويت عليه، مثل السعودية واتحاد جنوب إفريقيا وأوكرانيا.
بعد 74 عامًا من اعتماد الميثاق العالمى لحقوق الإنسان، لا يمكننا بأى حال من الأحوال أن نشعر بالرضا الكامل أو نزعم أن الـ30 مادة من الميثاق، مفعلة فى جميع دول العالم بشكل ناجز عاجل أو أن الميثاق قد أنهى مهمته على أكمل وجه، رغم أنه تُرجم لأكثر من 500 لغة.
لكننا نقول إنه أيقظ العقول والنفوس، وأرسى وعيًا جديدًا، وتكلم عن ضرورات إنسانية كحد أدنى على العالم تحقيقها والالتزام بها، وكان مرجعًا يهدد الانتهاكات قبل أن تقع، وكان إلهامًا للبشر نساء ورجالًا، أفرادًا وجماعات، وهم يتخيلون عالمًا أعدل وأجمل وأكثر سلامًا وأمنًا ونبلًا.
وليست صدفة أن ضمن منْ شارك فى وضع هذا الميثاق، أناس من خلفيات ثقافية مرموقة عالمية، كان يمكن للميثاق باعتباره إلزامًا يشبه أو هو بالفعل "قانون عالمى"، أن يكتفى بخبرات فى مجال القانون ولكن استضاف نساء ورجالا، فى مجال الثقافة والأديان أيضًا، بالدرجة نفسها من الأهمية والأولوية.
وهذا فى رأيى له دلالات هامة.
أولًا، أن حقوق الإنسان متشابكة الأبعاد، متداخلة المجالات، ولا يمكن فصلها، أو التركيز على واحدة دون الأخرى.
ثانيًا، إن القانون والثقافة والدين، وهي الثلاثة قضايا التى اهتم بها الميثاق، هى التى تصنع فى النهاية كل شىء فى حياة المجتمع، كل شىء ثقافة والثقافة ترجع فى جزء كبير منها إلى الموروثات الدينية.
ثم يأتى دور القانون، فى الفصل بين الثقافة والدين وضمان ألا يتعديان أو ينتهكان على حقوق الإنسان، مهما بلغت قوتهما أو سطوتهما.
القضايا الثقافية، والقضايا الدينية، دائمًا وأبدًا، "ضفيرة" واحدة، وفى بعض الأحيان وهى ليست قليلة لا نستطيع معرفة من منهما الخصلة الأولى فى الضفيرة، إلا بإعادة قراءة التاريخ وإيجاد رابط بين أشياء يقال إنها غير مرتبطة، وبإعادة تشغيل العقل، وتأمل تجارب البشر فى أماكن مختلفة الأزمنة.
من هذا المنطلق، سأتكلم عن الفكر "الكهنوتى" الذى أصبحنا نعانى منه بشدة فى بلادنا.
الفكر الكهنوتى، كما أعتقد ليس فى الأديان مثلما يظن الكثيرون، أنه "ثقافة" فى المقام الأول وتتخذ فى أوقات معينة أشكالًا وصورًا لها الجذر نفسه وأقصد به "الوصاية" على البشر.. الوصاية التى جرمها الميثاق العالمى لحقوق الإنسان بكل وضوح ويقظة وعدم تهاون.
فى وقتنا المعاصر، مثلما نعاني من الإرهاب تحت ستار، "الدين" توجد ظاهرة أخرى موازية هي الإرهاب تحت ستار "الثقافة"، مثلما هناك جماعات تقوم بتكفير البعض، والمطالبة بإهدار دمه، وتصفيته جسديًا باسم الدين، هناك "شلل" تقوم بتكفير البعض فكريًا، وإهدار دمه إعلاميًا، وتصفيته أدبيًا باسم الثقافة.
مثلما هناك جماعات تدعى امتلاك الحقيقة الدينية، نجد جماعات تدعى امتلاك الحقيقة الثقافية.
الأولى، تزعم احتكار تفسير الدين، والحكم على المؤمنين والمؤمنات.
والثانية، تحتكر تفسير الثقافة والفن والأدب والحكم على المفكرين والمفكرات. 
امتلأت حياتنا الثقافية بـ"الكهنة" أغلبهم من الذكور، الذين يسترزقون لقمة العيش من "التفقه" في تصنيف الأدباء والأديبات، ونقد المبدعين والمبدعات، ولديهم قائمة اغتيالات معنوية، لكل منْ لا يؤدى طقوس الطاعة والولاء، ولكل منْ يتعفف عن تقديم القرابين.
ولديهم أيضًا، قائمة اتهامات جاهزة للانقضاض على كل أديب، أوأديبة، مبدع أو مبدعة، أثبت وجوده من خارج عباءتهم، وليس في حاجة إلى رضاهم وبركتهم وشفاعتهم. 
والكارثة أن هؤلاء "الكهنة" الذين نصبوا أنفسهم "آلهة" الثقافة والفكر والإبداع والنقد، يعرفون الطريق أكثر من غيرهم إلى وسائل الإعلام، خاصة المرئية، ووسائل التواصل الاجتماعى، وبالتالي هم ينجحون في اختراق الرأي العام وإفساد الذوق الثقافي.
إن كهنة الأديان يحشون أدمغة الناس بما ينسجم مع تفسيراتهم الشخصية للدين، ومصالحهم السياسية الخاصة، وأمزجتهم وأسلوب تربيتهم وعلاقتهم بالمرأة والفن. وكهنة "الثقافة" يحشون أدمغة الناس، بمنْ يدعم رؤيتهم الخاصة للثقافة والإبداع.
وكما يقف أصحاب الإرهاب الديني طبقة عازلة بين الناس وجوهر الدين الحقيقي، الذى يشترك مع كل الأفكار الوضعية العادلة، يحجب أصحاب الإرهاب الثقافي عـن الناس بجدار سميك معنى الثقافة الحقيقية وجوهر الإبداع الأصيل.
إن كهنة الثقافة وكهنة الأديان يدعمان بعضهما البعض، وهما ظاهرتان يفرزهما مناخ واحد وترسخهما منظومة واحدة، أو لنقل إنهما وجهان لعملة واحدة، وإن كنا نرى أن كهنة الثقافة هم الأكثر خطورة.
فاستمرار الإرهاب الديني مرهون بسيادة الفكر الواحد والتعصب لرؤى فكرية محددة تفرض حصارها وسيطرتها، وهذا بالتحديد ما يرسخه كهنة الثقافة.
هم يزرعون بذور التعصب الفكرى والتزمت الإبداعي، كأسلوب حياة ونمط للتفكير. 
حركة الحياة، وإن أصابها بعض التراجع، هي دائمًا نحو الارتقاء، ولذلك فإن أصحاب المؤسسات الكهنوتية وأنصار الفكر الكهنوتي في الدين والثقافة على حد سواء، هم إلى زوال. 
حركة الحياة، وإن انتكست أو تكاسلت فهى كالشلالات لا أحد يوقفها أو يفسد تدفقها.
حقيقة بديهية تاريخية، تؤكد أن الميثاق العالمى لحقوق الإنسان، سوف يجد المزيد من التقدم والتفعيل والازدهار.

من بستان قصائدى 
أين يذهب الفرح
عندما أحتاج إليه؟
أين تختفى الكلمات
حينما أشتاق إليها؟
أين يختبئ الصمت
حينما أحلم بغنائه؟
أريد أن أبكى
من سرق عيونى؟
أريد أن أنام
منْ يحتل سريرى؟
أين كل الأشياء؟
أين دفء شجونى؟