هل وقفت عبقرية مى زيادة ونبوغها عائقا أمام الاستمتاع بحياتها؟
مي زيادة، أو ماري إلياس زيادة، الأديبة والكاتب والشاعرة، والتي غادرت دنيانا في مثل هذا اليوم من العام 1941. ألهمت خيال أدباء عصرها، ووقع في غرامها العقاد وجبران.
اشتهرت بصالونها الأدبي الثقافي، وكانت لها الريادة في هذا المجال، وربما كانت المرأة الوحيدة في عصرها التي أسست مثل هذه الصالونات، حيث تستقبل مفكري وكتاب زمنها، وكان يؤمه أبرز المبدعين في عشرينيات القرن المنصرم، من بينهم أمير الشعراء أحمد شوقي، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الشاعر عبد الرحمن شكري، الدكتور زكي مبارك، سلامة موسي، أحمد لطفي السيد وغيرهم.
كان لنشاطها الثقافي والإبداعي العديد من المظاهر، سواء في مؤلفاتها، أو دورها في حركة التنوير والمطالبة بحقوق النساء وتحرير المرأة ومساواتها بالرجل.
كما اشتهر عنها مراسلاتها لكبار مفكري عصرها ومبدعيه، من بينهم الشاعر جبران خليل جبران، الشيخ مصطفى عبد الرازق، عباس محمود العقاد غيرهم العديد.
ــ مي زيادة قصة المجد والحرمان
وفي كتابها “مي زيادة أو مأساة النبوغ”، تشير مؤلفته الكاتبة سلمى الحفار الكزبري، إلى أن قصة حياة مي زيادة، هي قصة الريادة في عطائها السخي، وتضحياتها الجسيمة، قصة المجد والحرمان، قصة المرأة النابغة في شرقنا العربي وحتمية استشهادها في سبيل إثبات وجودها كاتبة وشاعرة، ومصلحة وخطيبة في عصر كان يفرض على المرأة الصمت والطاعة، والرضا بكونها متاعا للرجل، ووسيلة إخصاب، معركتها شبيههة بمعارك الرائدات اللواتي سبقنها واضطررن للتخفي وراء أسماء مستعارة في مقالاتهن الداعية إلي اعتبار المرأة عضوا ذا قيمة في المجتمع والوطن.
ويوم كرمتها “عصبة الأدب” في بيروت سنة 1922 ألقي الأديب “راجي الراعي”، خطبة أتى فيها على تحليل نبوغ مي زيادة فقال: "النبوغ الأدبي هو أن يكون فيك غير ما في البشر فتملأ فراغهم بما فاض في كأسك. ومي نابغة أخرجت مؤلفاتها فدخلت في التاريخ.
ويمضي “الراعي” مضيفا: تنافس في مي زيادة القلب الكبير والعقل الكبير، كل منهما يريدها له: يصعد بها التفكير إلي القمة فيردها القلب إلي اللجة . وقد استطاعت أن تجمع بينهما في صعيد واحد، وتلك هي عبقريتها، فأرضت الفكرة العميقة الهادئة، والصدر المائج الزخار، تتسامي فتحوم حوماتها في الأجواء، ثم تحط علي الأفنان في الروضة الأنيقة.
ويشدد “الراعي” علي: "إن هذه الحرية المطلقة التي دعت إليها مي زيادة هي التي دقت عنقها في نهاية المطاف. وكأنها كانت تشعر بالمخاطرة، ولكن أني لها أن تحيد عنها وقد جبلت علي التفوق؟
ــ أصداء معاناة مي زيادة من خلال إبداعها
وعن ملامح ما قاسته مي زيادة خلال رحلتها في الحياة توضح “الكزبري” أن من يطوف على كتابات مي زيادة، ويتبصر بها يري فيها ومضات من معاناتها، ووحدتها، وجوعها وعطشها، وأحلامها وهواجسها في حياتها الغنية بالإبداع، والفقيرة في الاستمتاع . حتى في حبها الكبير لـ “جبران”، نرى أنها عانت الوحدة، والجوع والعطش، فلجأت إلى عالمها الخيالي المثالي الذي نمقته بلهف الحرمان، وتجرعت فيه كؤوس الأسي، وذاقت منه لوعة تجمد “الدماء التي لا تسيل” علي حد قولها .
ــ هل كان نبوغ مي زيادة وراء “عزوبيتها”؟
وتشدد سلمى الحفار الكزبري على أن: كان نبوغ مي زيادة عائقا لزواجها، إذ جعل الممتازين من الشباب يتهيبون طلبها للزواج لقناعتهم بتفوقها العلمي والأدبي عليهم. وهو ما تدعمه رسالة “عبد الله مخلص”، والتي وجهها إلى أحمد حسن الزيات سنة 1938، إبان محنة مي، ودفاعا عنها، وقد جاء فيها قوله: ومما أذكره عن مي أنني كنت في بيت المقدس في أوائل سنة 1923، فجاءته الآنسة مي زائرة ودارسة، وراح الأدباء والفضلاء للترحيب بها، والتعرف عليها. وقصدت أنا ورفيق لي إلى زيارتها فلم نجدها، وفيما نحن عائدان قالي لي صاحبي وهو يحاورني: “أتدري أن علم مي جني عليها؟ فقلت له أفصح عما في ضميرك فيظهر أن للكلام بقية، فقال: أنا أحد الذين كانوا يرون السعادة، كل السعادة في الاقتران بمي لما وهبها الله من الخلق الجميل، والصفات الطيبة، ولكني كنت أرى أن مستواها العلمي فوق مستواي، فلم أجرؤ على طلب يدها. وكان لي أمثال كثيرون كانوا يرون رأيي فيها، وكنا حين نلتقي بمي النابغة نشعر بعاطفة الإكبار والإجلال لآدابها الرفيعة.”
والذي قال لي هذا القول لم يكن من عامة الناس، بل هو من خريجي الجامعة الأمريكية، ومن أصحاب الثروات الطائلة، والذين أثروا في الحياة الاجتماعية والمدنية، ولكنه كان يري نفسه دونها، ويعترف بذلك.