كتبها بدلًا من أن ينتحر.. حكاية قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» لـ أمل دنقل
لم يكن للشاعر الراحل أمل دنقل عادات شخصية في الكتابة كغيره من الأدباء والشعراء، بل كان يستطيع الكتابة في أي مكان وفي أوقات مختلفة، وعلى أي نوع من الورق، وبأي نوع من الأقلام، والمشكلة لديه ليست في الكتابة ولكن في كيفية "اصطياد" نفسه للكتابة، وهذا ما فسره في حوار له بمجلة "البيان الكويتية" بعددها رقم 129 والصادر بتاريخ 1 ديسمبر 1976، قائلًا: لأنني أهرب دائمًا من اللحظة الشعرية، عندما تلح القصيدة، وتتوالى أبياتها في خاطري بيتًا بعد بيت فإنني أحاول أن أهرب من هذه اللحظة لأنها لحظة "التنسيق"- إذا جاز التعبير- بين الصور الشعرية وبين اللغة التي أصوغ هذه الصور فيها.
ويتابع: أحيانًا كثيرة أكتب ما بذهني حتى أتخلص منه، ثم أخلد إلى النوم وأستيقظ مرة أخرى لأفكر فيها أيضًا، ولا أستريح من هذه الحالة إلا عندما تكتمل القصيدة ومع ذلك أظل أنقح فيها وأعيد ترتيب مقاطعها وإجراء عملية "المونتاج" لها، وعندما لا تخطر القصيدة أو أبياتها في ذهني أعرف أنها انتهت تمامًا، ومن ثم أشعر بالراحة النفسية.
ولكل قصيدة كتبها أمل دنقل كان لها مكانة خاصة في نفسه، فبالنسبة لقصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" التي كتبها عقب النكسة مباشرة في 1967، وتحدث عن الجو النفسي حينها قائلًا: قد كنا ذات ليلة، أنا والصديق علي سالم (المؤلف المسرحي) ساهرين في القاهرة المظلمة في ذلك الوقت، وكنت متوقعًا منذ اليوم الثاني، عندما لم أجد أخبارًا عن معارك الطيران، أن ما دبر في 1956 من ضرب الطيران المصري على الأرض بواسطة الطيران الفرنسي والإنجليزي تحقق هذه المرة أيضًا، وإلا كنا قد سمعنا عن معارك جوية بين طائراتنا وطائرات إسرائيل، وقلت هذا الكلام لكثيرين- أذكر من بينهم الصديق رجاء النقاش- ولكنهم لم يصدقوا فآثرت الصمت.
ويوضح: عندما خرجنا، أنا وعلي سالم، كنت أناقشه فيما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وذهبنا إلى منزل الأستاذ إبراهيم رجب (الملحن) وتحدثنا فيما يمكن أن يحدث لو دخل الإسرائيليون القاهرة، لأن هذا الاحتمال كان قائمًا، كيف يمكن أن تغتصب النساء أمام عيوننا وتجميعنا في معسكرات اعتقال، ورؤية الجنود (الإسرائيليين) يمشون في شوارع القاهرة حاملين سلاحهم، هذه الرؤية أصابتني بالذعر، خرجنا وليلتها كتب على سالم مسرحية "أغنية على الممر" التي تحولت إلى فيلم سينمائي أيضًا، وذهبت إلى منزل وكتبت قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وكان الشعر ليلتها بديلًا عن الانتحار، ولكن لم تنشر في حينها بسبب المقاطع التي تتحدث عن غياب الحرية.