رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الروس فى مصر (2)


يقول السفير السوفيتي في القاهرة في مذكراته: كان ما عرضه جمال عبد الناصر على السفير السوفيتي في مارس 1970 يمثل مشروعا متكاملا للسلام، لا يختلف عما فعله السادات بعد ثماني سنوات، وبعد حرب كلفت مصر والعرب الكثير، لو أحسن السوفييت استغلال فرصة للسلام جاءت من زعيم عربي قادر على تنفيذ ما يعد به. 
فلو تعاملوا مع مشروع عبد الناصر السري للسلام بجدية، لحقنوا دماء آلاف الشهداء في مصر وسوريا. 
غبر أن السفير ألمح لعبد الناصر أن الاتحاد السوفيتي ليس شريكا في الصراع العربي الإسرائيلي والذي هو صراع بين بين قوى التحرر الوطني والقوى التقدمية بقيادة مصر من جانب، والقوى الرجعية إسرائيل تدعمها الولايات المتحدة من جانب آخر، وليس من المستغرب أن الاتحاد السوفيتي يدعم القوى التقدمية.
ثم قام جمال عبد الناصر باستدعاء المصور والتقط لهم صورا تذكارية. وفيما بعد، يقول السفير: إن محمد حسنين هيكل أخبره بعد مرور 3 سنوات ونصف، عندما شاهد تلك الصور أن عبد الناصر أخبره " أنه لا يفهم لماذا قدمت تنازلات كثيرة على هذا النحو للسفير فينوجرادوف "وأنا أيضا لا أعرف، لقد كانت تنازلات بالفعل، ولكنها لصالح مصر نفسها.
وفي صيف 1970 جاء ناصر إلى موسكو مرة أخري للعلاج، واستقبله فينوجرادوف، ويقول: أصابتني هيئته التي تشي بالمرض بالدهشة، كان ناصر عريض المنكبين، طويل القامة، متين البنية، لكن وجهه لم يكن بسمرته، وإنما كان شاحبا بدرجة ما، معتلا، وفي عينيه ألم دفين، وكان عليه أن يبتسم، وأن يصافح مستقبليه.
كان الرئيس جمال في ذلك الوقت في قمة ضعفه الإنساني. وفقد الثقة في معاونيه ورجاله، يقول السفير:" كُلٍّفت باستدعاء مراد غالب، سفير مصر في موسكو وقلت له: نحن الآن في منتصف اليوم، وأنا أبلغك بناء على طلب الرئيس ناصر أنه سيصل إلى موسكو في زيارة سرية، وسوف نتوجه معا من الوزارة مباشرة إلى المطار لاستقباله. لم يبد غالب اندهاشا، كان يعلم أن ناصر لا يولي ثقة لشفرة جهازه الديبلوماسي، ولعله لم يكن يوليها لبعض العاملين في الجهاز، وبالفعل طلب عبد الناصر ترتيب الأمر بحيث لا يعرف أحد من المصريين في موسكو عدا السفير وحده".
والمفهوم من كلام السفير الروسي أن جمال عبد الناصر قد أسلم نفسه طواعية إلى الاتحاد السوفيتي. وترك مصر في حماية الجيش السوفيتي. بعد أن فقد الثقة في كل شيء في مصر، لدرجة أنه كان يخفي تحركاته عن سفيره في موسكو، وكل المحيطين به..
وفي المباحثات التي جرت في الكرملين، كان ناصر يتصرف بحرية كما لو كان بين صحبة حميمة، وفي غير تكلف، كان يستجيب ببساطة للدعابة، كان يقظاً، بل شديد اليقظة عندما يستمع إلى ما يقوله القادة السوفييت.
وكانت تلك هي الزيارة الأخيرة للرئيس جمال عبد الناصر. 
وفي أثناء المباحثات عرض الرئيس جمال عبد الناصر لموقف مصر فى تلك المرحلة العصيبة وقال.. “ها نحن قد رأينا إسرائيل تهاجمنا وتحتل أراضينا بتواطؤ مع الولايات المتحدة وخلال الحرب تساءل الناس هنا في مصر قائلين: أين أصدقاؤنا السوفييت؟ لقد كان من الواضح عدم إمكان معاونتكم لنا عسكريا قبل أن يكون هناك اتفاق معكم على الترتيبات العسكرية اللازمة، وأنا أعرف أن من شأن هذا الاتفاق أن يثير لنا مزيدا من العداء من الجانب الأمريكي. 
وهنا علق رئيس الوزراء السوفيتي قائلا، إنه يصعب أن نجد في العالم دولة غير منحازة مائة بالمائة. 
واستمر الرئيس عبد الناصر فى حديثه قائلا " إذا كنا نطلب منكم أن تكونوا معنا فى وقت الحرب، فيجب أن نكون معكم فى وقت الحرب ووقت السلم، وأمامنا الآن أيام صعبة يتعذر أن نتغلب عليها وحدنا، ولأن النضال يستهدف هذه المرة تحرير أراضينا بقوة السلاح، فإنه يتحتم علينا أن نتفق مع الاتحاد السوفيتي. ونحن على استعداد لتقديم تسهيلات لسفن أسطولكم من بورسعيد إلى السلوم. وبالطبع فإننا سوف نستمع إلى أشخاص هنا فى مصر يقولون لنا : أنتم أخرجتم الإنجليز من الباب وأدخلتم السوفييت من النافذة ولكن كل هذا يهون ويمكن تحمله فى سبيل تحرير أرضنا". 
وفي ختام المفاوضات أعلن الرئيس بريجينيف موافقة اللجنة المركزية ومجلس السوفييت الأعلى على طلب الرئيس عبد الناصر. وقال إنها أول مرة يخرج فيها جندي سوفيتي من الاتحاد السوفيتي إلى دولة صديقة منذ الحرب العالمية الثانية. وقرأ البيان الذى يتلخص فيما يلى :  
أولا : إمداد مصر بفرقة كاملة من صواريخ سام 3 بأفرادها ومعداتها وأجهزتها على أن تصل إلى موانئ مصر خلال شهر واحد ، وأن تعمل تحت القيادة المصرية لأغراض الدفاع الجوي عن العمق المصري. 
ثانيا: إمداد مصر بقوة ثلاثة لواءات جوية من 95 طائرة ميج 21 معدلة بمحرك جديد، بالقادة والطيارين والموجهين والفنيين السوفييت، وأجهزتها وراداراتها للإنذار والتوجيه والمعدات الفنية والعربات، وأن توضع تحت القيادة المصرية للمساهمة في الدفاع الجوي عن العمق المصري على أن تصل خلال شهر. 
بالإضافة إلى 50 طائرة سوخوى 9 ، وعدد 10 طائرات ميج 21 تدريب، وعدد 50 موتور طائرة ميج 21 معدلة من نوع جديد لتركيبه في الطائرات ميج21 الموجودة في مصر. 
ثالثا : إمداد مصر بأربعة أجهزة رادار ب 15 لرفع كفاءة الإنذار الجوي في شبكة الدفاع الجوي المصري 
رابعا : تقوم مصر بتجهيز الدفاعات والتحصينات والمرافق الإنشائية لهذه المعدات بحيث تكون جاهزة في الأماكن التي تخططها القيادة العسكرية المصرية قبل وصول هذه المعدات السوفيتية إلى مصر. 
خامسا : يعتبر تواجد الجنود السوفييت في مصر مؤقتا لحين استكمال تدريب اللواءات المصرية من قوات الدفاع الجوي والقوات الجوية في مراكز تدريب الاتحاد السوفيتي والجمهورية العربية المتحدة في وقت واحد ، وعندئذ يعود الأفراد السوفييت إلى وطنهم.
وكرر الرئيس بريجينيف على واجبات لواءات الدفاع الجوي والقوات الجوية أن تكون في عمق مصر . 
وبوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، انتهى مشروع السلام الذي اقترحه جمال عبد الناصر، ربما لأنه كان قرارا منفردا بعيدا عن مستشاريه أو وزير خارجيته، كما لم يخبر به نائبه أنور السادات، وهو ما جعل السوفييت ينظرون للمشروع على أنه ناصري وشخصي.