رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاعر والجارية.. وشم النسيم

الشاعر هو جيرار دى نرفال، رحالة وشاعر فرنسى، وصل إلى القاهرة فى أعقاب وفاة محمد على، وبداية عصر ابنه عباس، بدأ نرفال رحلته من باريس إلى القاهرة بالباخرة. رفض نرفال أن يقيم فى الفنادق الإنجليزية الباهظة، قاده الترجمان إلى فندق دوميرج فى القاهرة، وهو ملتقى لكل الفرنسيين فى مصر. 

كانت مصر وقتها محطة للرحالة والمغامرين والجواسيس الأجانب الذين بدأوا فى التوافد على مصر بعد النهضة التى أحدثها محمد على. 

لم يتحمل نرفال الإقامة فى الفنادق الفخمة، ولأنه كان يريد أن يحيا الحياة الشرقية تمامًا كأهاليها ومواطنيها، لأجل هذا اقترح المترجم على نرفال أن يقيم فى بيت مستأجر فى المدينة. استراح نرفال للفكرة التى اقترحها المترجم، وشرع فى البحث عن منزل.

وبالفعل تجول مع عبدالله فى الحى اليونانى وحى الأقباط، ولكنه لم يسترح إلى السكن فى قصور الحى اليونانى، وانتهى به الأمر فى بيت تملكه قبطية فى حى الأقباط، كان يسكنه إنجليزى ورحل عنه.

قام شيخ الحى بكتابة عقد بيع البيت، وتسلم نرفال مفتاح بيته الخشبى، الذى كان عليه أن يعلقه فى رقبته، وقام نرفال بتأثيث بيته بقفص كبير من الجريد صنعه القفاص تحت عينيه، وحضر المنجدون للمنزل وصنعوا وسائد وآرائك، بحيث تتحول الوسائد فى الليل إلى مراتب.

بعد أسبوع، جاءه شيخ الحى ومعه كاتبه وخادم يحمل له الغليون، ليطلب منه أن يغادر البيت، ويأخذ نقوده التى دفعها، وبعد شد وجذب ومفاوضات قال له شيخ الحارة:

- أمهلتك ثمانية أيام لتحضر امرأة وبعدها ستجبر على ترك البيت.

ولما سأله نرفال عن السبب أخبره شيخ الحى بأنه لا يصح أن يقيم بمفرده فى حى تسكن به عائلات، وأفهمه أن هذا لا يليق، وتمنعه التقاليد المصرية، كما أخبره عبدالله أن شيخ الحارة يسدى له النصيحة، فهو يقول له إن أفنديًا مثلك لا ينبغى له أن يعيش بمفرده، وإنه من المشرف دائمًا، أن تؤوى امرأة وتطعمها وتسدى لها الخير وأحسن من ذلك، أن تطعم الكثيرات منهن، إذا سمح لك الدين الذى تعتنقه بذلك.

وعلى الفور بدأ نرفال يبحث عن زوجة حسب التعاليم المسيحية، ولكنه وجد أن الزواج بتلك الطريقة يكلفه غاليًا وهو الحريص فى إنفاق النقود.

لم يكن أمام نرفال من حل، سوى أن يقتنى جارية. فهى أرخص من تكاليف الزواج. فضلًا عن أنها ستقوم مقام الزوجة وتعتنى بشئون البيت.

اشترى نرفال الجارية بأربعة أكياس، بما يعادل ستمائة وخمسة وعشرين فرنكًا، واصطحبها من السوق إلى بيته.

وعندما صارت الجارية فى البيت وجد نرفال نفسه محاصرًا بطائفة من الأفكار التى لم تخطر على باله عند الشراء!

اكتشف نرفال أن عبدالكريم النخاس الذى باع له الجارية قد غشه، فقد وجد تحت الشريط الأحمر الذى يحيط بشعرها وجبهتها موضع حرق، فى مساحة القطعة الذهبية من فئة الخمسة جنيهات، تبدأ من منبت الشعر، وحرقًا آخر بنفس الشكل على صدرها، وفوق هاتين العلامتين كان هناك وشم فى ذقنها، وكان منخرها الأيسر مثقوبًا.

كما أنه عندما قدم لها الطعام فى الصباح رفضت تناوله.

كما رآها بعد ذلك تنظر من النافذة إلى بعض الشبان فى الملابس العسكرية، كانوا يدخنون أمام البيت، وأخذته الغيرة كالشرقيين، ولم يعثر على أى كلمة باللغة العربية يستطيع أن يفهمها من خلالها أنه ليس من المستحب أن تنظر امرأة إلى العسكريين فى الشارع.

وعندما لم يتمكن من التفاهم بأى لغة. قرر نرفال أن يستعين بمدام بونوم الفرنسية التى تعمل بالتمثيل فى مصر، وتجيد العربية والفرنسية، لكى تقوم بالترجمة بينه وبين الجارية، بدلًا من المترجم عبدالله، لأن أحد اليهود أخبره أن المترجم عبدالله من المحتمل أن ينقل أفكارًا سيئة للجارية.

وبالفعل قامت السيدة بونوم بدور المترجم، طلب منها نرفال أن تسألها عن اسمها وديانتها ومغامراتها قبل أن تصل إليه، وسبب امتناعها عن تناول الطعام فى الصباح، أخبرته الجارية بأن اسمها زينب، وأنها اختطفت وهى صغيرة من على شاطئ البحر، وبِيعت فى القاهرة، وقالت إنها مسلمة، ولم تتناول الطعام فى الصباح لأنها صائمة.

ذات يوم عاد نرفال إلى منزله ليجد إكليلًا من البصل معلقًا فى منزله بعرض الباب، ومعه مجموعة أخرى من رءوس الثوم، مرصوصة بانتظام فوق الموضع الذى تنام فيه، وكان هذا اليوم هو شم النسيم، فما كان منه إلا أن انتزع تلك الزينات غير اللائقة، وقذف بها فى الفناء، وما كاد يفعل ذلك حتى صاحت الجارية ثائرة، وهرولت لالتقاط البصل وهى تبكى، وعندما حضرت المترجمة القبطية التى تعلمها الفرنسية أخبرت نرفال بأنه عندما ألقى البصل على الأرض، فقد أهان طقسًا من الطقوس المصرية، كما أخبرته بأن رائحة البصل والثوم من شأنها أن تمنع الأمراض والأوبئة عن المنزل وسكانه.

وسرعان ما تحققت مخاوف الجارية، وأصيبت بمرض غامض حاول نرفال علاجه، ولكنها لم تستجب لعلاجه أو نصائحه الطبية. 

واستعانت الجارية بجارتين لها من البيت المجاور، وشيخة مشهورة، أحضرت موقدًا وأشعلت فيه نارًا، وأحرقت على النار حجرًا، كان باعتقادها أن هذا الدخان يضايق الشياطين، وقامت الجارية وانحنت على الدخان، ما سبب لها سعالًا شديدًا، والغريب أنها منذ تلك الواقعة بدأت فى التحسن حتى شفيت تمامًا. 

كانت أموال نرفال قد بدأت فى التناقص، وكان يفكر فى استكمال رحلته إلى لبنان وتركيا، وكان يريد أن يتخلص من الجارية، وقال لها:

- يا طفلتى الصغيرة، إن كنت تريدين البقاء فى القاهرة أنت حرة.

وكان يتوقع منها الاعتراف بالجميل وتشكره، ولكنها بادرته بالقول:

- حرة! ماذا تريد أن أصبح، وإلى أين أذهب، من الأوفق أن تبيعنى مرة ثانية إلى عبدالكريم؟

- لكن يا عزيزتى، الأوروبى لا يبيع النساء، وقبوله هذه النقود أمر شائن.

قالت الجارية وهى تبكى:

وماذا أفعل إذن؟ هل أستطيع أن أعيش بدون سيد؟

قال نرفال:

- تستطيعين الالتحاق بخدمة سيدة من دينك.

صاحت الجارية باستنكار:

- أنا أصبح خادمة؟ أبدًا.

وشعر نرفال بأنها على حق، وقرر أنها ما دامت لا ترغب فى البقاء فى القاهرة، فينبغى أن يصحبها معه للبلاد التى ينوى أن يذهب إليها.