أيام العباسية
صار التل يختل، وهو لا يشعر بأن الأيام تسرقه
ومن حوله لا همّ لهم غير ارتشاف عسل عمله وحظه
من الحياة.. وهو بين متكاسل ومخدر العقل والجسم
من سهر الليل
منذ أن شب على قدمه.. وعرف طريق البراح بالخروج مع والده دومًا وأبدًا.. يركب بجواره فى عربته النصف نقل من مطار القاهرة إلى العباسية.. رحلة يومية قرابة الخمس سنوات حتى عرف محيط جماركه.. من قرية البضائع إلى جمرك الدولية ومن إير فرانس لجمرك البريد وباقى الدوائر الجمركية.
والبضاعة القادمة من كل بقاع الدنيا.. عرفته مهنة القيادة لأبيه بأصناف شتى من البشر عبر رحلة نقل البضائع، مما أكسبه خبرة لا بأس بها.. حتى إنه عرف كيف يقود سيارة أبيه وهو لم يتجاوز بعد العاشرة.. عرف أيضًا المال جيبه الصغير، ومن وفرة المال صار كصرة الأموال فى العصور الغابرة.. مما أهّله فى الفترة التى تلت مغامرة المطار.. حين أقدم والده كغيره من أبناء العباسية إلى الركون بجوار جهاز الخدمة الوطنية الخاص بالجيش.. ساعده هذا التنقل فى اكتساب مزيد من الخبرة المبكرة فى أصول التعامل مع المتطوعين والضباط العاملين بالخدمة أو المعاش فى الثقة بالنفس ومجاراة الكبار.. حتى عرف المال طريقه من أوسع أبوابه.. حيث إن الأمر لا يكلفه غير التواجد اليومى والتعامل المباشر مع راغبى التنازل عن الاستمارة الخاصة به كلنا حسب رتبته.. بمعنى استمارة بخمسة آلاف جنيه فيها اللى فيها من أجهزة وخلافه تتم المقايضة مع المستفيد منها.. وربما لحاجته إلى المال يبيعها أو يتنازل عنها للمقايض بنصف ثمنها أو أكثر قليلًا.. وهكذا.
من هنا عرف «هاشم بخيت» طريق المال من أوسع أبوابه.. حيث كانت فترة التسعينيات مليئة بأصحاب المعاشات والموجودين بالخدمة الساعين للاستفادة من الخدمات المتوافرة لرجالات الجيش.. من هنا كثر المال وربا حتى صار «هاشم» فى فترة صباه وشبابه الباكر من أصحاب الألوف المؤلفة.. لِمَ لا.. وشقيقه الأكبر الشيخ «هانى» الذى يسبقه فى العمر ببضع سنوات أقل من الخمس.. صار هو الآخر من كبار التجار الموردين للأجهزة الكهربائية لشارع عبدالعزيز.. مما دفع «هاشم» فى أحد الأيام لأن يذهب مع أحد أصحاب المعارض الخاصة بالسلع المعمرة التى تقام للعاملين بالدولة.. والذى حثه على مشاركته فى إدارة المعارض لأنها سبوبة.. ولقمة عيش فيها بقلاوة.. من هنا دخل «هاشم» عش النحل بعسله وشمعه وملكاته.. حتى أصبح ملكًا فى تلك المملكة الجديدة فى بضعة أشهر.. المعرض تلو المعرض.. والفلوس تجرى كالسيل من علٍ، حتى نما وربا وصار كثيرًا، حتى لامس عالم المليون وهو ليس بالمصدق.. كانت تلك الفترة فى مطلع التسعينيات، تحمل الخير لبعض المحروسين من العين أبناء الشعب العريق.. حتى صار «هاشم» من رجال أعمال ذلك الزمان، وتزين بالذهب حول عنقه، وفى معصمه وأصابعه.. صار يلمع فى وجه النهار وظلمة الليل، حتى التف حوله كذابو الزفة، والآكلون على كل الموائد وصار يومه بين الكيف بكل أنواعه والجلوس إلى المقهى بصحبة أقرانه، واللعب بورق الكوتشينة، حتى لعب الورق به مع الأيام.. وصار التل يختل، وهو لا يشعر بأن الأيام تسرقه، ومن حوله لا همّ لهم غير ارتشاف عسل عمله وحظه من الحياة.. وهو بين متكاسل ومخدر العقل والجسم من سهر الليل.
ومغامراته فى مسارح وكباريهات المحروسة.. نساء وخمور ورجال فى الشكل وفى الأصل نخاسون.. بالطبع كانت الأموال فى طريقها إلى التبخر.. وهو لا يشعر، والأيام تتآكل وكذلك العمر والصحة.. وهو فى غفلة عمّا تعمل يداه.. وعقله من كثرة ما تجرع صار يبحث عمّا هو أشد تخديرًا، حتى عرف طريق الهوى.. طريق اللى يروح ممكن ما يرجعش.. عرف طريق البسبوسة «الكيف الأبيض العالى»، لعنة الله عليها وعلى اللى يبحبوها.. حتى تحول «هاشم» فى بضعة أشهر من شاب نضر يمتلك وجهًا مشرقًا وعيونًا ناعسة فارحة باسمة.. إلى عيون ضامرة خاملة نائمة.. ومع ضياع كثير من المال والسيارات التى تحت يده علاوة على من حوله مما يحلبون لبن ماله.. وهو لا يدرى.. حتى علا بعض أقرانه فى دنيا اللهو والمجون من أصدقاء السوء ولا فخر.. أصبحوا يمتلكون وينعمون ببعض المال ومباهج الحياة من وراء ما كانوا يستقطعون من لحم ودم وعرق وكسب.
«هاشم بخيت».. ودارت الأيام ومرت الأيام.. وتدهور حال «هاشم» حتى أصبح من أصحاب المرض بسبب البسبوسة وخلافه، والسهر اليومى ومعاقرة الدخان المستمر.. والنوم القليل والأكل بدون عقل.
مقطع من رواية «أرض الزعفران»