أرشفة الكتاب
خلق الله القلم بداية، وأمره بالكتابة تأصيلًا للعلم وتأسيسًا للمعرفة. فالقراءة وسيلة تحصيل العلم، وآلة جمع المعرفة، والكتابة أداة ترجمة تلك الحصيلة، بربط الحاضر بالماضى، وتجسير الحاضر نحو المستقبل، وتُعد أيضًا أبرز وسائل التواصل والاتصال البشرى، وسمة تعبير الفرد عن ذاته، وترجمة فكره وإبداعه وابتكاره إلى واقع قابل للنقل والتداول والتوظيف. وبها تُحرر وثائق التاريخ، وتُحفظ الوقائع، وتُدون السيِر، وتُسجل القضايا، وتُفند الأحداث، وتُوثق الحوادث. إنها وسيلة التعبير عن الخواطر والأفكار نثرًا وشعرًا ونحتًا، وأنها أداة لحفظ العلم، وشهادة للوقائع والأحداث والقضايا. كما أنها تُجسد الحضارات، وتُستحضر بها القصص والروايات، وتُترجم الفنون والإرث الثقافى والموروث الحضارى على مر حضارة الإنسان.
«اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (آية ٣، ٤، ٥، سورة العلق).
أول من كتب بالقلم، وخطط المدن، وأصل لعلوم الفلك نبى الله إدريس عليه السلام، وأول من كتب وخط اللغة العربية نبى الله إسماعيل عليه السلام، والثانى يعرب بن قحطان، والثالث عامر بن جدرة، والرابع مرامر بن مروة.
مرت الكتابة بمراحل تطور، حيث كان عام ٣٦٠٠ قبل الميلاد بداية الكتابة باللغة المسمارية على الألواح الطينية، عن طريق النقش بالقلم على الطين الطرى، ثم يُجفف فى الشمس أو بالنار. وفى عام ٣٤٠٠ قبل الميلاد ابتكر قدماء المصريين الكتابة الهيروغليفية، ثم استخدموا ورق البردى فانتشرت الكتابة عليه، وأصبح قدماء المصريين يصدرونه لبلدان العالم القديم. وقد وضع حاكم مملكة بابل الملك حمورابى ما بين عام ١٧٢٨ و١٦٨٦ قبل الميلاد تشريعات حمورابى التى كانت تشمل مجموعة قوانين ونظم تنظم شئون الحياة العامة والخاصة فى الدولة البابلية. كما دونت العلوم فى عصره وانتشرت المعارف والحضارة من بلاد الرافدين فى شرق سوريا والعراق إلى المشرق وأجزاء مختلفة من العالم القديم.
أسهمت الدولة الآشورية التى كانت عاصمتها نينوى فى العراق إسهامًا فعالًا فى نشر وحفظ العلم من خلال إنشاء مكتبات تُجمع فيها الكتب وتنطلق منها المعرفة فى الفترة من عام ٦٦٨ إلى عام ٦٢٦ قبل الميلاد. عرف العرب الكتابة على الجلد، وازدهرت الكتابة العربية فى القرن الثامن الميلادى مع إنشاء مصانع للورق فى سمرقند، ثم فى العراق والشام، ومصر، حيث تطورت صناعة الورق ثم انتقلت عبر المغرب إلى أوروبا.
استمر تطور الكتابة والتأليف، ولكن التحول الأكبر جاء بفضل جهود يوهان غوتنبرغ المخترع الألمانى الذى وُلد أواخر القرن ١٤ الميلادى، وارتبط اسمه باختراع الطابعة الحديثة فى القرن ١٥ الميلادى. كان غوتنبرغ أول من استخدم الحروف المعدنية المتحركة، التى أحدثت ثورة فى التحول من الكتابة اليدوية إلى استخدام آلات الطباعة، وبدأت المطابع تنتشر فى العالم، وتم إعادة طباعة الكتب، والتوسع فى إصدار الطبعة تلو الطبعة منها، وتبوأ الكتاب مكانة عالية فى تطوير الفكر ونقل المعرفة ونشر الثقافة.
يمتلك الوطن العربى قاعدة راسخة فى العلم والمعرفة والثقافة والحضارة، وحركة تأليف الكتب وتدوين المعارف وتسجيل الابتكارات والاكتشافات فى الطب والدواء والفلك والفضاء وخورزميات الرياضيات والإحصاء وتاريخ المدن والفن والمخطوطات. ومع ما مر به من نكسات وتراجع، ظل الولع بالكتاب مستمرًا، لذا كانت هناك محاولات لتوطين المطابع الحديثة فى بعض أجزائه. أول مطبعة فعالة فى العالم العربى كانت مطبعة بولاق التى أُنشئت فى مصر عام 1822م، وقد سبقتها محاولات لطبع بعض الكتب فى لبنان، ولكنها كانت تعتمد على جهود محدودة، ثم تلتها مطابع فى فلسطين ولبنان، واليمن، والحجاز.
صاحب انتشار المطابع وتطور فنون الطباعة حراك فكرى وثقافى، وأصبحت القراءة سمة ملازمة لمعظم الناس حتى فى وسائل النقل والأماكن العامة. ومع تطور التقنية، وانتشار وسائل التواصل والاتصال والإعلام الجديد، توارى وعاء العلم ومحفظة المعرفة عن الأنظار، وابتعد عن الأيدى، وقل تداوله. قد لا يُسمع عن استعارة كتاب وإعادته إلى مكتبة أو إلى شخص قد أعاره لآخر، أو انتهاء مدة إعارة الكتاب، وطلب تمديدها.
أُرشف الكتاب فى أرشيف المكتبات وبين الأرفف، ولم يعد يُزين المداخل والواجهات، وحل الوسيط الإلكترونى حتى فى محاضن التعليم محل الكتاب. لم يعد كما قال أبوالطيب المتنبى «وخير جليس فى الزمان كتاب»، ولم تعد الأيدى تُقلب صفحات الورق، بل أصبحت تتساءل عن شبكات الإنترنت، وأضحى العلم بيد الوسيط الإلكترونى، والمعرفة مرهونة بقوة وضعف الشبكة، وتعطلت اليد عن الكتابة على الورق، وفى طريقها إلى الأمية الكتابية التى قد تتبعها أمية القراءة، فقد اكتفى البعض بالرسائل الصوتية، «أرسل فويس».
ومع استمرار معارض الكتاب وتنقلها بين المدن والبلدان، إلا أنها قد تحولت من إنتاج العلم وصناعة المعرفة إلى لقاءات واستعراضات تقدم غالبًا غلافًا لكتاب فى صندوق من الداخل فارغًا، مجانبة لجوهر أهداف تلك المعارض. فى حين يمكن توظيف تلك المعارض بما يحفظ مكانة الكتاب وصدارته، ويجعل إقامة معرض الكتاب دائمة ومستمرة فى بلد عربى له السبق فى العلم والثقافة والحضارة، لتبقى رمزية الكتابة قائمة، وقيمة الخط العربى باقية، ضمن شعار «اكتب لتصبح كاتبًا»، فالقلم سيترك الناس كما تركوه.
رئيس مركز المعرفة العربية للاستشارات