رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفرنسى والجارية «5»

طلب نرفال من الأرمني أن يقوم على تسليتها، ويقص عليها القصص بلغتها العربية.. عندما خرج نرفال من كابينته وجد الجارية تتحدث مع النوتي العجوز، في هذه المرة لم يجد نرفال ما يحرص عليه وجذب الجارية من ذراعها في عنف، حتى سقطت على أرض الباخرة، فوق كيس من أكياس الرمل، وصاحت الجارية في نرفال: 
- يا غول. 
ووصلت الكلمة إلى سمعه بوضوح وأجاب: بل أنت غول.
وأشار إلى النوتي العجوز وقال: 
- وهو كلب. 
لم يعرف نرفال ما إذا كان الغضب الذي اعتراه ناشئًا عن معاملته باحتقار بصفته مسيحيًا، أم من التفكير في جحود تلك المرأة التي كان يعاملها معاملة الند.
عندما سمع النوتي سبابه قام بحركة تهديد، وتقدم ناحيته اثنان من زملائه وهما يلفظان الشتائم، وبحركة آلية أمسك نرفال بمسدسه، وكان غير محشو.. واندفع الأرمني ليمنعه، قائلًا:
- إنه مخبول، وسوف يتحدث إليهم القبطان.
تظاهرت الجارية بالبكاء، ولم ترد أن تتحرك من المكان الذي جلست فيه، وجاء القبطان، ووجه إليهم كلمات لينة. 
وقال نرفال: 
- ما إن أضع قدمي على الأرض حتى أذهب لمقابلة الباشا، وأجعلهم يتلقون ضربات العصا.
كان نرفال يحمل خطاب توصية إلى والي عكا، وعندما علم النوتية بذلك عرفوا أن ضربات العصي على أقدامهم التي وعدهم بها نرفال لم تعد خيالًا، وأحنوا رءوسهم له، ويقول نرفال: 
- إنه بعد تلك المشادة أحنى هؤلاء الشياطين رءوسهم. 
وكان القبطان قد خاف من الاحتكام بآرائهم الدينية، ولا سيما رعية من رعايا السلطان المسلم، كما أخبره القبطان بأنه بالنسبة للجارية «فإذا كنت صديقًا لمحمد باشا فستظل لك».
عندما وصلت الباخرة إلى بيروت وأثناء إقامتهم في الحجر الصحي أخبره القبطان بأن ثمة علاقة قد نمت بين الأرمني الشاب والجارية، وأنهما كانا يتحدثان. 
يعترف نرفال بأنه لا يستطيع أن يغفل ما في الأرمني من مزايا، فهو في ريعان الشباب، وتميزه الوسامة الآسيوية مثل فتاة ساحرة تخفت في ملابس الرجال، وأحس بأنه موضع ازدراء مزدوج، من الجارية والأرمني، وقرر أن يتخذ قرارًا حاسمًا، وقال للأرمني:
- أي عمل تقوم به في مصر؟ 
- كنت سكرتيرًا لطوسون بك، كنت أترجم له المجلات والجرائد الفرنسية، وكنت أحرر له خطاباته للموظفين الأتراك، وقد مات فجأة، وطردت من عملي.
- وماذا تنوي أن تفعل؟ 
- آمل الدخول في خدمة والي بيروت، فأنا أعرف أمين خزانته وهو أرمني مثلي.
- ألم تفكر في الزواج؟
- لا أملك ما أقدمه كمهر.
وبعد برهة قال نرفال لنفسه: لأظهر كرم أخلاقي وأمنحه السعادة، وأشعرته تلك الفكرة بالسمو والنبل، وسأعتق الجارية.
وأمسك بيد الأرمني وقال:
- إنها تروق لك سأزوجها لك.
وكانت الجارية حاضرة أثناء ذلك، ولكنها تجهل موضوع الحديث الذي يتحدثان فيه.. رفع الأرمني ذراعه في الهواء، كما كان قد ذهل لتصرف نرفال غير المتوقع، مما دفع نرفال للقول:
- أتتردد في القبول، أبعد أن تغري امرأة في حوزة غيرك، وتنحيها عن واجباتها، ترفض أن تتكفل بها بعد أن أعطيها لك؟
وعبّر الأرمني عن دهشته بسلسلة من الاعتراضات القوية، وقام نرفال بإخبار الجارية بالأمر، مما سبب لها جرحًا لكبريائها.
عندما وصل نرفال إلى مدينة بيروت استأجر مسكنًا وسط المسيحيين المارونيين، ولكن الجارية المسلمة لم تتوافق معهم، وكانت تعتبر نفسها محاطة بمن هم أقل منها، وكانت تطلب منهم خدمتها.
وذات صباح استيقظ نرفال فوجد فوق رأسه قسيسًا مارونيًا جاء إلى منزله بطريق الخطأ، ولكنه تحدث معه، وكانت الجارية حاضرة، وأخبره نرفال بتاريخها، كما أخبره بأنه سوف يمنحها حريتها، لأنه لا يستطيع أن يدخلها إلى فرنسا بصفتها جارية، كما أخبر القسيس: 
- إنها مسلمة وإن هذا شعور فطري وطبيعي لديها، ولكن المارونيين الذين استضافوهم لم تعجبهم حركاتها، وألحّوا علىّ في بيعها وعرضوا استحضار تركي لإتمام الأمر.
عرض القسيس الأب بلانشيه استضافتها في الدير.
يقول نرفال: 
- كنت أخشى أن يندفع الأب بلانشيه في الخيال بدافع من إيمانه القوي، ويفكر في أن يمنح الدير شرف تنصير إحدى المسلمات، كان يخشى ألا تقبل ويصبح مصيرها تعسًا.
وعندما دعاه أمير بيروت لقضاء عدة أيام في الجبل، هناك دلّوه على مدرسة في بيروت للبنات تديرها سيدة فرنسية من مرسيليا اسمها كارليس، وكانت تلك المدرسة هي الوحيدة التي تدرس فيها اللغة الفرنسية، وبعد أسابيع من إقامتها في المدرسة انتحت به مديرة المدرسة وقالت له:
- لن أيأس من الوصول إلى تبشيرها بالمسيحية.
ولكن الجارية أصرت على موقفها، ويقول نرفال، في خاتمة كتابه الذي نشر في باريس عام 1851، إنه يبدو أن الجزء الأول من هذا الكتاب قد نجح بسبب قصة الجارية الهندية، وهي لا تزال حتى الآن حية ترزق، وقد اضطررت إلى تغيير اسمها في طبعة الكتاب، وهي الآن متزوجة في إحدى مدن الشام، وأن مصيرها استقر بصورة سعيدة، وأنني تسببت في تغيير مصيرها إلى الأبد، ولم أطمئن على مستقبلها إلا عندما علمت بأن وضعها الحالي كان من اختيارها المطلق، وقد ظلت على عقيدتها الإسلامية، رغم كل الجهود التي حملتها على اعتناق الأفكار المسيحية، ولن يستطيع الفرنسيون من الآن فصاعدًا شراء الجواري من مصر، لأن أحدًا منهم لن يجازف بإلقاء نفسه في المتاعب التي تجرها تلك المسئولية الأبدية.