رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسئولون يخالفون توجهات الحكومة

 

لسبب ما قادتنى قدماى إلى مبنى محطة مصر فى رمسيس.. ولسبب ما شعرت بالحزن، وبأن جزءًا مما أراه يخالف تعليمات الرئيس، هناك تطوير فى المحطة، وفى المنطقة المحيطة بها.. بعض مما رأيته لم يكن موفقًا.. مبنى محطة مصر مبنى أثرى يعود تاريخه إلى عام ١٨٥٣ حين تم تأسيس السكة الحديد فى مصر، وهو مبنى على الطراز العربى الإسلامى، وله طابع معمارى خاص.. وقد لاحظت أن السور الخارجى للمبنى استحدثت فيه محلات تجارية، وأن أنشطة هذه المحلات، واللافتات التى تعلن عنها تشوه جمال هذا المبنى التاريخى.. وتسىء للهوية البصرية له.. إن أحد المحلات المقام فى السور الخارجى لهذا المبنى هو فرع لشركة ملابس داخلية شهيرة! وهى تعلن عن نفسها بلافتة ضخمة من النيون الأزرق، وتكتب اسمها بحروف إنجليزية ضخمة، لا تراعى قيم الجمال بقدر ما تراعى لفت الانتباه، بالحروف الضخمة وبالأضواء المزعجة، وإلى جوار محل الملابس الداخلية فرع لسوبر ماركت شهير، يكتب اسمه بالنيون على واجهة المبنى التاريخى، وإن كنت أعترف أن لافتته أقل قبحًا وإثارة للإزعاج البصرى.. إننى أقول إننى مع سياسة تعظيم الموارد، وأعرف أن هذا توجه عام للحكومة وللدولة المصرية.. لكن ما رأيته هو تنفيذ فاشل لسياسة جيدة.. فالحكومة لم تقل إن علينا أن نشوه واجهة المبنى التاريخى بفتارين زجاجية، ولافتات من النيون، مكتوبة بحروف لا تمت لشخصية المبنى بصلة.. كان يمكن الاكتفاء بعشرات المحلات داخل المحطة، وعلى أرصفتها المختلفة.. وحتى إذا كان هناك اضطرار لبيع محلات على سور المبنى الخارجى وهو سور أثرى، كان يجب أن نراعى شيئين.. أولهما أن يكون النشاط التجارى متسقًا مع روح المبنى.. كأن يكون بازارًا سياحيًا مثلًا.. أو مكتبة.. وثانيهما أن تكتب اللافتات بخط عربى إسلامى يتطابق مع روح المبنى، وأن تكون ألوانها متطابقة مع المبنى الذى اقتطعت منه، وشوهت جماله، وأساءت لتاريخه، إن القاعدة الفقهية تقول إن دفع الضرر مقدم على جلب المصلحة، وأتخيل أن دفع ضرر تشويه المبنى، أفضل عشرات المرات من عشرات الآلاف التى تجنيها هيئة السكة الحديد شهريًا، ثمنًا لهذا التشويه فى جدار محطة مصر، أو باب الحديد، كما تعرفه الأجيال الأقدم.. إن ما يدفعنى للدهشة.. أنه على بعد مئات الأمتار فقط، تنفذ الحكومة مخططًا رائعًا لتطوير منطقة «وسط البلد» التاريخية، أو القاهرة الإسماعيلية، وهى تفعل هناك عكس ما فعله مسئولو السكة الحديد تمامًا، إذ تزيل لافتات المحلات القديمة والمزعجة، وتضع لافتات تراعى الطراز المعمارى للمبانى، والفترة التاريخية التى ينتمى لها المبنى المقام فيه المحل التجارى.. فلا يمكن أن ينتمى المبنى للقرن التاسع عشر، ونضع عليه لافتة تنتمى لعام ٢٠٢١، لأن هذا هجين بصرى ومعمارى، فضلًا عن أن الذوق الحديث عادة ما يكون تجاريًا، ومبتذلًا، ويستخدم خامات رخيصة، ويهمل الوظيفة الجمالية، لحساب الوظيفة التجارية.. ضمن تدهور عام شهده الذوق المصرى، ليس هنا مجال تفصيله.. والحقيقة أن انزعاجى من إهمال المعايير الجمالية لم يقتصر على محطة مصر كأثر معمارى وتاريخى.. لكنه امتد إلى مجموعة محلات أقيمت فى سور سوبر ماركت شهير فى الشيخ زايد.. وهى منطقة مميزة معماريًا.. السوبر ماركت يطل على المحور المركزى، وقد بيعت مجموعة محلات كبيرة فى سوره الخارجى المطل على المحور تقريبًا، بعضها محلات أطعمة مثل الكبدة، وبعضها أنشطة أخرى، وقد رفع كل منها لافتة قبيحة، ومزعجة بصريًا، هدفها لفت الانتباه لنشاطه، وليس مراعاة لأى قيمة جمالية، وهى كلها مكونة من لافتات بلاستيكية، ذات ألوان مزعجة، تضيئها مجموعة ضخمة من كشافات النيون، فيما يشكل مهرجانًا للقبح.. الذى أزعجنى أنه يزحف للمدن الجديدة مثل زايد.. ولعل ما أدهشنى أكثر أن المدينة ليست تابعة للمحليات، ولكن لوزارة التعمير، وهى وزارة تبنى مشروعات فى غاية الروعة، ووزيرها السابق هو د. مصطفى مدبولى الذى يشرف على مخطط التطوير العمرانى للقاهرة، وعلى تطوير منطقة وسط البلد نفسها.. فكيف نصلح ما تم تخريبه فى القديم، ونترك الجديد ليتم تخريبه بنفس الطريقة! وما ينطبق على المحلات فى سور السوبر ماركت الشهير ينطبق على كل لافتات المحلات فى مدينة ٦ أكتوبر.. التى سجلت أسرع معدل تدهور فى تاريخ المدن الجديدة، وتحولت من مدينة للطبقة الوسطى المصرية إلى مشروع مدينة عشوائية، قبل أن يأتى الرئيس السيسى ويقرر مد يد الإصلاح للعمران المصرى.. إنه من المدهش جدًا أن يتبنى الرئيس مشروع خلق هوية بصرية لكل مدينة مصرية، وأن نرى مسئولين لا ينفذون هذه الرؤية، أو ينفذونها بطريقة خاطئة فيفسدون من حيث أرادوا أن يصلحوا، ويغفلون حيث يجب أن ينتبهوا، ويسببون الخسائر وهم يظنون أنهم يجلبون الأرباح.. وهو ضرر يجب أن ننتبه له ونوقفه ونقومه لأنه بكل تأكيد يخالف روح تعليمات الرئيس.