رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الورقة الثانية تم إحراقها!

 

فى عام ١٩٩٤ كانت هناك محاولة لإقامة مؤتمر عن الأقليات فى الوطن العربى، كان المؤتمر مشبوهًا لاعتبارات متعددة، وكان أخطر أوجه الشبهة أنه يعتبر أقباط مصر أقلية دينية.. تصدى الأستاذ هيكل للمؤتمر بمقال كتبه فى صحيفة الوفد، قال هيكل إن هناك خطرين على مصر لا يدانيهما خطر ثالث، الخطر الأول هو مياه النيل، والخطر الثانى هو محاولة تفتيت الوحدة الوطنية.. كان المقال أخطر ما كتبه هيكل فى تاريخه لأن الأيام أثبتت صحة نبوءته.. لا أظن أننى فى حاجة للشرح أو التفسير أو إسقاط ما قاله الرجل فى ١٩٩٤ على ما يحدث منذ ٢٠١١ ويتجدد حتى نوفمبر ٢٠٢١، مع آخر محاولة لإعادة تأسيس الدولة المصرية، وبناء مشروع نهضة جديدة، ظهرت أزمة سد النهضة الإثيوبى، أو ظهر الخطر على مياه النيل، لم تكن الأزمة فى بناء السد نفسه، فالتنمية حق مشروع لإثيوبيا، اعترفت به مصر، لكن رياحًا نتنة فاحت من كواليس ما يحدث، قدر لا يمكن تجاهله من الغطرسة، ورفض التفاوض، وركل كل حل وسط، وتصريحات استفزازية لا تتناسب مع حجم القوة الإثيوبية، تمويل غامض، بمبلغ لا تملك إثيوبيا تدبيره، وروائح نتنة من تحالفات سرية خرجت للعلن فى السنوات الأخيرة.. طعنات فى الظهر وجدت يدًا قوية تمسك بها وتلويها وتعيدها نحو من سددها، فى الداخل أصوات ملتاثة بغير علم، تطالب بالحرب، وتمارس جلد الذات، وتسخين الأجواء، بحسن نية ربما، وبسوء نية أحيانًا، كانت هذه هى الورقة الأولى التى ألقاها لاعب شرير على المائدة، وهو يظن أنه سيربح المباراة بالضربة القاضية، لكن مصر ردت بخطة تعتمد على إعداد البدائل، وهدوء الأعصاب، والرد حيث لا يتوقع الخصم، وفى الوقت الذى كان ينتظر الجميع وصول التوتر المصرى إلى الذروة، سواء على مستوى الشعب أو القيادة، ومع إعلان البدء الثانى لملء السد، كانت مصر تصل إلى قمة الصبر، فيلقى الرئيس خطابًا ضاحكًا يطلب فيه من المصريين أن يتوقفوا عن «الهرى»، وتمنح الحكومة العاملين إجازة لمدة أسبوع للاستمتاع بالأعياد، ويظهر الرئيس يوميًا وهو يمارس رياضته اليومية ويمازح مواطنين يصادفهم، وإذا كل شىء يسير عكس ما خطط له اللاعب الشرير، فالملء الثانى يفشل، والحرب الأهلية الإثيوبية تتصاعد، ورئيس الوزراء المتغطرس يفقد شرعيته تدريجيًا، وتعلن مصر عن عشرات المشاريع لتحلية المياه، وعن بدائل مختلفة لزيادة موارد مصر المائية وليس لتعويضها.. فشلت ورقة مياه النيل.. ليخرج اللاعب الشرير ورقة «الفتنة الطائفية» وفق نبوءة هيكل، الذى تثبت الأيام أنه كان أستاذًا بحق، رغم أى اعتراضات.. كان القضاء على الفتنة الطائفية أعظم إنجازات ثورة ٣٠ يونيو، فالمسلمون سبقوا الأقباط فى الإطاحة بحكم تجار الدين، والرئيس السيسى أدرك أهمية نزع فتيل الفتنة، كان أول رئيس مصرى يزور الكنيسة فى الأعياد، استقبله الأقباط استقبالًا أسطوريًا، تم حل مشكلة بناء الكنائس جذريًا، استحق البابا تواضروس عن حق لقب بابا المحبة، واجه المحبة بمحبة أكبر، حين أحرق الإخوان عشرات الكنائس بعد إسقاطهم، قال مقولته الخالدة «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»، اختفت حوادث الفتنة الصغيرة التى كان يشعلها متطرفون هنا وهناك، أدرك الجميع أن يدًا قوية تحمى مسلمى الوطن، وأقباطه معًا، اختفت المهاترات، والتوترات، ضمت المجالس النيابية ممثلين للأمة المصرية بمختلف تنوعاتها.. وصلت الحريات الدينية فى مصر لمستوى غير مسبوق، اختفت قنبلة الفتنة الطائفية على يد رئيس قرأ تاريخ مصر وذاكره جيدًا.. كانت أحداث الفتنة الدموية فى الزاوية الحمراء نذير نهاية عصر الرئيس السادات، وربما جزءًا من المؤامرة عليه، وكان تفجير كنيسة القديسين نذير نهاية عصر مبارك بما له وما عليه، ولم يكن الحدثان بعيدين عن اليد الشريرة وعملائها، وفى الثمانى والأربعين ساعة الماضية أجهض المصريون محاولة شريرة لإثارة الفتنة، حيث تم استدعاء مقطع فيديو لشخص مختل، فصلته الكنيسة من خدمتها، وتبرأت منه، ورغم أن عمر المقطع ١٢ عامًا كاملة، إلا أن حسابًا لفتاة إخوانية أعاد إذاعته، وفى دقائق كانت اللجان الإلكترونية قد شاركته ستة آلاف مرة من حساب واحد، مع هاشتاج يتظاهر بالغضب للرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، لكن الكنيسة أصدرت بيانًا فوريًا تؤكد فيه ما سبق إعلانه من فصل هذا المنحرف، الذى يعيش فى الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، وانتبه المصريون للمؤامرة، وراح المسلمون قبل الأقباط يحذرون مما يحدث، ويشرحون أن الكاهن المفصول لا يمثل إلا نفسه، وهكذا أحرق المصريون الورقة الثانية التى ألقاها اللاعب الشرير على المائدة، والتى تحدث عنها الأستاذ هيكل منذ ربع قرن كامل، فأى ورقة جديدة سيلقى بها الأشرار على المائدة ؟ لننتظر ونرَ.