رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فوضى الطب

بين حين وآخر تطفو على السطح حادثة أو أكثر تدعو إلى فتح هذا الملف المهم، وهو فوضى العلاج الخاص فى مصر، والذى تحول بعض ممارساته إلى ممارسات إجرامية تشبه تلك التى تمارسها عصابات المافيا فى بعض الأماكن.. فوضى العلاج الخاص فى مصر، هى أحد تجليات انسحاب الدولة من ممارسة دورها فى مجال الرعاية الصحية منذ منتصف السبعينيات تقريبًا، وهو انسحاب تدريجى ساعد عليه الانفجار السكانى والزيادات المتتالية فى أعداد المصريين مع ثبات الأموال المخصصة للصحة فى الموازنة العامة أو تراجعها فى بعض الأحيان، هذا الانسحاب من مجال الرعاية الصحية تزامنت معه رخاوة فى تطبيق القانون واشتراطات الجودة على المؤسسات الصحية الخاصة، وعدم وجود سقف أعلى لما تتقاضاه هذه المستشفيات من المريض والذى أصبح من العادى أن يصل لعدة ملايين من الجنيهات فى السنوات الأخيرة.. هذا فضلًا عن شيوع الممارسات التجارية التى تُحول الطب من رسالة إلى سلعة، وتحول الطبيب من «حكيم» أرسله الله لمساعدة الناس، كما كان وصفه فى الماضى، إلى تاجر يشترى ساعات إعلانية يُسوق فيها لنفسه ولطرق العلاج التى يدعى المعرفة بها ويستخدمها فى اجتذاب أكبر قدر ممكن من الأموال من جيوب زبائنه.. إن أخطر ما فى الممارسات الطبية التى يصادفها الإنسان من خلال التجربة أو يسمع عنها من خلال آخرين هى أنها أصبحت تتخذ شكل التشكيلات العصابية التى يتقاسم أعضاؤها المهام والأرباح التى يتم اقتطاعها من لحم «الزبون» الذى كان يوصف فى الماضى بـ«المريض»، ذلك أن كل طبيب أو مستشفى أو مركز علاجى أصبحت له مجموعة من السماسرة الذين يوردون له الزبائن مقابل عمولة معينة، فأنت قد تسأل طبيبًا تثق فيه أو شخصًا تعرفه عن مستشفى ملائم فينصحك بمستشفى كذا ويصفه لك بأنه أعظم المستشفيات، وعندما تذهب تخبرهم بأنك مرسل من طرف الطبيب فلان.. وما لا تعرفه أن الطبيب الذى أرسلك سمسار، وأنه يحصل على نسبة من المبلغ الذى تدفعه فى المستشفى والذى سيحرص الجميع على أن يكون عدة مئات من الآلاف لأن دخول الحمام ليس مثل خروجه، كما يقول المثل الشهير.. إننى أروى هنا متأثرًا بتجربة شخصية عمرها أكثر من عامين مرت بها والدتى الراحلة، والتى استدعت تداعيات الشيخوخة أن تجرى عملية بسيطة لا تتجاوز تكلفتها عشرة آلاف جنيه.. لكن المستشفى الفاخر الذى يعالج نخبة القوم فى مصر حصل منها على عدة مئات من الآلاف هى تقريبًا كل مدخرات حياتها الطويلة، حيث حدث خطأ طبى قاد إلى بقائها فى الرعاية المركزة ما يزيد على شهر كامل، لا تملك أسرتها خلاله إلا التوجه للخزينة كل عدة أيام وسداد مبلغ تحت الحساب، لأنك تدرك بالسليقة أن والدتك أو والدك رهينة لدى مجموعة من اللصوص يرتدون ملابس الأطباء، وأنك لو أثرت أى مشكلة، أو توقفت عن الدفع ستتوقف أجهزة الرعاية عن العمل ويتم إخبارك بأن المريض توفى.. لقد آثرت أن أخضع للابتزاز فى هذه التجربة، وأن أدفع المطلوب بالكامل دون أن أعترض ودون أن ألجأ للإعلام ولا للمسئولين خشية من هذا السيناريو الكابوسى، وكان من الغريب أنه بعد النجاة من هذه المحنة وخسارة عدة مئات من الآلاف أن أجرى العملية طبيب شاب ذو ضمير فى نصف ساعة فقط، ودون أى آثار جانبية وبتكلفة بسيطة للغاية، وعندما أفقت من الكارثة ورويت ما جرى لصديق شخصى كان مسئولًا سابقًا قال لى إن أصحاب المستشفى لصوص معروفون يكسبون المليارات كل عام وينفقونها فى بلاد العالم المختلفة.. تذكرت هذه الفوضى وأنا أسمع عن محنة تعرضت لها إعلامية زميلة نتيجة تجربة طريقة جديدة فى العمليات الجراحية بغرض التجميل.. ليثور فى ذهنى سؤال: من الذى يُقر هذه الطرق الجراحية؟ من الذى يقول إنها صالحة؟ أين دور إدارة العلاج الحر فى وزارة الصحة، وهل لديها من الإمكانات ما يتيح لها مراقبة هذه السوق الضخمة من المستشفيات الخاصة ومراكز التجميل والعيادات والتى تحقق أرباحًا بالمليارات، لأنها تعمل فى سوق ضخمة قوامها ملايين المواطنين.. ثم ما دور مؤسسات الدولة المختلفة فى ضبط هذه السوق وفى تقديم خدمة صحية بسعر التكلفة وليس بأسعار اللصوص التى تفرضها المستشفيات الاستثمارية.. بكل تأكيد تضاعفت خدمات الصحة التى تقدمها الدولة بعد٣٠ يونيو عشرات المرات، وعادت الدولة لدورها فى تقديم الرعاية الصحية، ولكننى أسأل هنا عن سوق «العلاج الخاص»، التى يلجأ لها أناس ليسوا أغنياء ولا مليونيرات بحثًا عن خدمة أفضل لذويهم أو لأنفسهم.. أين الدولة من هذه السوق.. أين الدولة من الطبيب الذى يتقاضى ثلاثة آلاف جنيه فى الكشف الواحد فى عيادته.. أليس هذا استغلالًا؟ أليس هذا تحويلًا للطب من رسالة إلى سلعة؟.. على الدولة أن تتدخل لإصلاح مجال العلاج الخاص فى مصر وضبطه وتحويل نشاط تمارسه المافيا إلى نشاط يمارسه أطباء أصحاب رسالة.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.