«أخي العزيز».. مراسلات «حسين وجلال أمين» تكشف فصولا جديدة من حياتهما
حظيت الرسائل على مدار التاريخ بأهمية بالغة لما تحويه من أبعاد شتى، تبدأ مما هو ذاتي عبر ما تُبيّنه من ملامح ذاتية في شخصية المتراسلين وتوجهاتهم الفكرية، وتصل إلى التأريخ لتحولات سياسية وثقافية وتبيان الموقف منها كما تظهره الرسائل، لا سيّما وإن كان المتراسلون على تماس حقيقي بالحياة الثقافية في بلدانهم.
من هنا، يكتسب كتاب «أخي العزيز.. مراسلات حسين وجلال أمين»، الذي حرره كمال صلاح أمين، حفيد حسين أمين، أهميته. فالخطابات المُتبادَلة بين المفكرين البارزين تُمثِّل إطلالة لافتة على سنوات التكوين الفكري الأولى للكاتبين، وبدايات تبلوُر وعيهما الفكري والثقافي، فضلًا عن آرائهما وانطباعتهما الأولى بخصوص أبرز الأحداث السياسية والتغيرات الثقافية التي شهدها العالم عمومًا ومصر خصوصًا في فترة المراسلات.
يذكُر كمال صلاح، أن مراسلات حسين وجلال أمين تبدأ من العام 1950 وتمتد حتى عام 1987، أي أنها تمتد من عقدهما الثاني حتى السادس، وخلال تلك السنوات أقاما في عدد من المدن هي: «لندن وكامبردج وموسكو وكندا ونيجيريا والكويت وألمانيا والبرازيل ولوس أنجلوس والقاهرة»، وبدأ في نشر العديد من كتاباتهم وإنتاجهم الثقافي.
ويركز الجزء الأول، الذي نشرته حديثًا "دار الكرمة"، على المراسلات الممتدة في الفترة من 1950 حتى 1960. ورغم أنها سبقت إنتاج الكاتبين الثقافي، يمكن اعتبارها توثيقًا لبداية تبلور اتجاهاتهم الفكرية، كما أنها تلقي الضوء على العوامل التي قادت إلى الاختلاف في الرؤية الفكرية لكل منهما، وتضيء بعدًا جديدًا لشخصيتهما.
الرحلة ودورها في بلورة الرؤى الفكريّة
حينما أتمّ حسين أمين الثامنة عشر من عمره، ارتأى والده، الكاتب البارز أحمد أمين صاحب "فجر الإسلام"، أن يرسله لقضاء العُطلة الصيفية في لندن لاعتقاده بأهمية تعلُم لغة أجنبية في سن مبكرة، ومنذ العام 1950، الذي سافر فيه حسين إلى لندن، تبدأ الخطابات التي يُرسلها إلى عائلته، والتي يسرد فيها كثير من تفاصيل حياته في لندن، وكواليس عمله في الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وصداقاته النسائيّة المتعاقبة.
أسهمت تلك الفترة في تعزيز مهارات وخبرات حسين أمين، وبرز في خطاباته أثر تلك الفترة البالغ في تكوينه الثقافي والفكري إذ يتحدث عن الكثير من الكتب التي قرأها ويناقشها مع أخيه، ويُفصِّل نقده لعديد من المسرحيات التي حرص على متابعتها بصورة مكثفة، فضلًا عن اطلاعه على المستجدات السياسية في العالمين العربي والغربي باضطراد، وهو ما حرص عليه جلال أيضًا بشكل عام، خلال فترة إقامته في لندن، وإن كان اتجه أكثر لاحقًا للتركيز على القراءة في الاقتصاد.
في ديسمبر 1954 حينما تولى حسين مهامه كمذيع في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، كتب خطابات عن كواليس العمل والسياسات غير المعلنة، وفي مارس 1956، قال في خطاب إلى العائلة: "أشعر بالفرح والغبطة أني مصري أكثر مما شعرت في أي وقت في الماضي. مصر الآن تنشر أخبارها وكأنها دولة كبرى والجميع يعمل حسابها. ولا أملك إلا أن أتذكر كيف كنا نخجل أن نذكر أننا مصريون عام 1950 أيام كان فاروق في دوفيل، وكيف أن الانجليز الآن ينظرون إلى كل مصري هنا وكأنه جمال عبد الناصر نفسه".
الفخر والاعتزاز بالتجربة الناصرية كان حاضرًا بقوة في خطابات الأخوين، فبينما يذكر حسين فخره بالأثر الذي حققه جمال عبد الناصر دوليًا، يكتب جلال أمين في خطاباته التي أرسلها لأخيه في العام 1958 من لندن، أثناء بعثته لدراسة الاقتصاد، قائلًا: "إن نفوذ عبد الناصر في العالم العربي وفي العالم كله لا يجهله إلا المصريون، وقد أثار خبر قُرب زيارته لموسكو قلق السياسيين هنا".
أيضًا، يمكن القول إن بداية التمرد والمجابهة للأفكار الأصولية بدأت مع حسين أمين في أثناء فترة عمله بالإذاعة البريطانية؛ إذ عبّر في خطاباته عن استهجانه لأسئلة بعض المسلمين التي يوجهونها للمركز الإسلامي حول من سيدخل النار أو الجنة وهل غناء المرأة حلال أم حرام، بيد أن أولى المواجهات يُمكن رصدها من خطابه الذي أرسله عام 1955 والذي قال فيه "منذ حوالي أسبوعين كنت أقدم البرامج وكان بينها حديث لطه حسين، وقبل الحديث قلت والآن نأتي لأهم جزء من برامج السهرة، ولم آخذ بالي أو أخذت بالي ولكني لم أهتم، أنه كان من بين برامج السهرة تلاوة من آيات الذكر الحكيم".
بعد أيام، وصلت عشرات الرسائل من عواصم إسلامية مختلفة تصرخ كيف يجرؤ الزنديق الذي يحل دمه حسين أمين أن يقول عن حديث طه حسين أهم جزء في السهرة مع وجود تلاوة من القرآن الكريم.
كان هذا ربما هو الموقف الأول الذي برز من خلاله فكر حسين أمين المائل إلى الحزم والجذرية في معالجة الأفكار المتطرفة، والتي ظهرت بشكل أكثر وضوحًا في كتاباته لاحقًا لا سيما في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، فيما تبلور خلال رحلة جلال أمين إلى لندن ميله إلى عدم التعصب لآرائه والقدرة على تقبل النقد وما وصفه في أحد خطاباته بـ "الهدوء الفكري".
آراء في الثقافة والأدب
ضمّت الخطابات المتبادلة بين المفكرين المصريين نقاشات أدبية وفنيّة وفلسفيّة كان قوام بعضها المنطق والتحليل والأفكار المُنظمة، كمناقشاتهما حول الموسيقى والفكر الماركسي. وأخرى كانت تنطلق من انطباعات أوليّة تخرج من أحدهما في لحظات ضيق أو غضب أو ربما تخوف من المستقبل.
يقول حسين في أحد خطاباته: "أحيانا تنتابني من الثورة على سذاجتي ما يجعلني أريد أن أكون شريرًا عن عمد. أليست هذه السذاجة هي التي منعت والدي من أن يكون له اسم في السياسة؟ أو حتى الاسم اللائق به في الأدب؟". ويذكر خطاب آخر لجلال أمين تقديره المتأخر لوالده بعد وفاته فيقول: " أنا لا أقول أنه كان أديبًا عظيمًا ولا حتى أن أعماله تعكس ذكاء غير عادي، ولكن كان فيه إخلاص وطيبة عميقان فضلًا عن الصبر على العمل والقراءة".
ويذكر حسين في حسرة، في خطاب آخر، غيرته مما وصل إليه غيره من الكتاب من شهرة خلال فترة غيابه عن مصر مخاطبًا أخيه جلال: "لا أستطيع أن أصور لك يا جلال مدى الغيرة التي أشعر بها عندما أرى كيف لمعت أسماء كيوسف إدريس وأحمد بهاء الدين ومحمود العالم، وقد جاء معظم لمعانها في ظرف السنتين اللتين قضيتهما في الخارج.. وها أنذا قد بلغت الأربعة والعشرين ولا أحد يعرفني".
ومع ذلك، كان حسين أمين يُكن الاحترام ليوسف إدريس أكثر من أي أديب آخر معاصر له، يقول مخاطبًا أخيه حسين في أحد الخطابات: "يوسف إدريس وحده من بين الحشد الغريب الذين تنبح بهم الصحف والمجلات المصرية هذه الأيام هو الذي ما زال يثبت قوته وصلابته، ثقتي تنهار في واحد تلو الآخر من الذين كنت أؤمن بنبوغهم وأنا في مصر".
ويورد المُحرر خطابًا سبق وضمّنه جلال أمين في كتابه "مكتوب على الجبين" يذكر فيه حسين أمين ما قاله يوسف إدريس له في بيته بالقاهرة من أن "ثقافته (أي يوسف إدريس) لا تبلغ نصف أو عشر ثقافة حسين أمين"، والفارق بينهما هو أن الأول قد عرف عامة الشعب منذ طفولته وصباه بينما حسين أمين يحتاج إلى أن يكتشف مصريته ويخالط الناس".
ولم تخلُ خطابات جلال أمين من آراء في هذا الصدد، فيقول في واحد من خطاباته إن "محمود أمين العالم بعكس أحمد بهاء الدين يصلح لكتابة أبحاث علمية لا مقالات في الصحف، وهو أطيب من اللازم والكتابة تستلزم شيئًا من القسوة والحدة".
وفي خطاب آخر، بينما يُجادل أخيه حافظ حول أهمية الالتزام بالقراءة وأهميتها في توسيع المدارك والاستمرار في النجاح يذكر له مثالًا عمن لمع نجمهم واستمرت شهرتهم بدون داع فيقول له: "يوسف السباعي مثال رائع على من احتلوا كراسي الشهرة مدة طويلة بدون مبرر".
الأخ الكبير مُوجهًّا ومُعنّفًا
تُبرِز الخطابات المُتبادَلة بين الأخوين علاقة على قدر عال من المحبة والاحترام والمودة تجمع بينهما من جهة وبين أفراد الأسرة ككل من جهة أخرى، بيد أن الفترة التي قضاها حسين أمين في لندن، ولأنه أكبر سنًا من أخيه جلال، كان يقوم بدور الناصح والمرشد والمُوجّه لأخيه الأصغر، فينصحه في واحد من خطاباته بتحويل أوراقه من شعبة الآداب إلى شعبة العلوم، وفي خطاب آخر ينصحه بما ينبغي عليه قراءته قائلًا: " أنصحك بالتوقف عن قراءة طه حسين وتوفيق الحكيم وأن تبدأ في قراءة سومرست موم وكتابه "عبودية الإنسان" فلن تجد في الدنيا كتابًا مثله".
ويمكن القول إن جلال أمين قد أفاد من المناقشات والانطباعات التي حرص أخوه على استمرار بثها طوال فترة غيابه، كما استفاد من علاقاته التي كوّنها خلال تلك الفترة وقتما انطلق في بعثته إلى لندن، فكانت تلك التجربة السابقة ربما سراجًا أنار بعض أوجه العتمة لجلال في رحلته التاليّة. فيذكر جلال في خطاب له حرصه على قراءة الجرائد الانجليزية ومتابعة الأخبار العالمية وبقدر الإمكان قراءة الروايات والذهاب إلى المسرح، اتباعًا لخطى أخيه، فضلًا عن حرصه على متابعة أخبار مصر عبر راديو مصر.
ومع ذلك، اتسمت بعض المناقشات بشيء من الحدة والتعنيف؛ يكتب جلال أمين في واحد من الخطابات عن مسرحية ليوجين يونسكو معبرًا عن إعجابه بها وبكاتبها الذي رآه لا يقل براعة عن الألماني بريخت، فيرد عليه حسين غاضبًا "بعض الحياء.. هذا الوغد يوجين يونسكو ما كان ينبغي أن يخدع شخصًا ذكيًا مثلك".
ويأتي رفض حسين لكتابات يونسكو بناء على رأيه عن الفن ودوره في الحياة؛ إذ يرى أن ما يهم في الفن هو الموقف الذي يحيلنا إلى اتخاذه، وفي حالة يونسكو فإن الفن لا يتعدى كونه وسيلة للمتعة والتسلية وتخدير الفكر. وفي هذا الصدد يرد جلال أمين قائلًا: "إني الآن أكثر تقبُلًا لفكرة ترك الحرية للأديب، وأميل إلى الاعتقاد بأن أدباء الفن الهادف يسجنون أنفسهم في غرفة ضيقة داخل قصر لا نهاية لحجراته"، ويختم خطابه بقوله "أكتفي بالاحتجاج على بعض العبارات الوادرة في خطابك وأنت لا شك تعرفها، ولا تظن أني سأتخذ من هذه العبارات موقف اللا مبالاة أو سأقف متفرجًا".
مكان واحد واتجاهات مُتفرقة
فرضت حياة الغربة على الأخوين عددًا من المهام لم يكونا معتادين عليها، على رأسها الأعمال المنزلية من إعداد للطعام وجلي للصحون وتنظيف للغرفة وترتيبها. ومن اللافت، النظر إلى أوجه الاختلاف بين الأخوين في الاستجابة لذلك الظرف الواحد وما قد يدل عليه، فبينما يتأمل جلال أمين في أحد خطاباته تلك الحالة ويخرج منها بنظرة إيجابية تدرك أهمية اضطلاع الفرد بشئونه اليومية مثلما يضطلع بمهامه العقلية، فإن حسين أمين ينظر إلى ما يفعله نظرة ساخرة وتراوده فكرة الزواج رغبة في التخلص من تلك الأعمال.
يقول جلال أمين: "قيامي بجميع الأعمال اليدوية التي أحتاج إليها أفادني كثيرا. إن قيامي بهذه الأعمال اليدوية أفهمني أولا كيف يعيش العمل العقلي عالة على العمل اليدوي، وكيف أن العمل اليدوي ضروري تمامًا كالعمل العقلي وأن الحياة تتكون من كليهما بدون انفصام .. بدا لي أيضًا أن إعداد الأكل لا يجب مطلقًا أن يكون هو أحد الدوافع إلى الزواج".
أما حسين أمين فينقله هذا الوضع إلى حنين لما كان يلقاه من رعاية الأم واعتنائها بمثل تلك التفاصيل، ويقول ساخرًا: لقد أصبحت الآن حقًا ست بيت ممتازة.. العيب الوحيد الذي أقابله عندما أطبخ لنفسي هو غسيل الحلل والأطباق بعد الأكل، ولكني مع ذلك لن أتزوج".
ويذكر حسين أمين في واحد من الخطابات إصراره على رأيه في عدم الزواج من أجنبية، لأنه يُفضِّل البيئة والعادات والتقاليد المشتركة أكثر من الثقافة الأعمق والأكثر اتساعًا التي قد تحوزها الفتاة الأجنبيّة، فيما يُعبّر جلال أمين في خطاباته عن إعجابه الشديد بالإنجليز، وبعمق التجارب التي صادفها لدى صديقة انجليزية سابقة. كانت تلك الانطباعات المبدئية ربما موجهة لاحقًا لاختيارات الكاتبين لشريكة الحياة؛ إذ تزوج حسين أمين من مصريّة بينما تزوج جلال من فتاة انجليزية في أثناء فترة إقامته بلندن التي امتدت لست سنوات.
ومع أن للمفكرين البارزين عددًا من المؤلفات في حقل السيرة الذاتية، الذي كتبا فيه الكثير من التفاصيل عن حياتهما وتطورهما الفكري؛ إذ كتب جلال أمين، المتوفى عام 2018، في مجال السيرة الذاتية: "ماذا علمتني الحياة"، و"رحيق العمر"، و"مكتوب على الجبين"، أما حسين أمين، المتوفى عام 2014، فكتب "كيمياء السعادة"، و"في بيت أحمد أمين"، و"أبو شاكوش"، و"شخصيات عرفتها". فإن الخطابات المُتبادَلة فيما بينهما تُعضّد ما ذكراه في سيرتهما، وتلقي الضوء على أبعاد أخرى ليست على الدرجة ذاتها من الوضوح في كتب السيرة، كما تفتح بابًا لإعادة إحياء ما قدماه من أعمال ودراسات عُنيّت بمناقشة قضايا وإشكاليات فكرية لا تزال حاضرة.