رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لقاء مع وزير الرى فى حديقة مفتوحة:

مياه النيل.. لا تهديد ولكن لا بد من الترشيد

وزير الرى: مصر لن تسمح بالمساس بمياه النيل 

لأول مرة.. مزارعون مصريون يصبحون أبطال الحدث ويخطفون الكاميرا من رؤساء التحرير

أدعو لحملة لترشيد استخدام المياه فى أمور الحياة اليومية مثل الوضوء وغسيل السيارات ومسح البيوت وغسيل الأطباق

حصتنا من مياه النيل ثابتة منذ بداية القرن.. وعددنا تضاعف عشر مرات لذلك لا بد من ترشيد استخدامنا للمياه 

هل يريدون منّا أن نهيئ الناس لقلة المياه من الآن؟ لماذا إذن يعقد وزير الرى لقاءً مع رؤساء التحرير عن ترشيد استخدام المياه فى هذا التوقيت بالذات؟ كان هذا صوت يهمس بجانب أذنى وأنا فى الطريق للقاء وزير الرى فى إحدى حدائق القناطر الخيرية.. كنا نركب مركبًا نيليًا انطلق بنا من مقر الوزارة على نيل الوراق إلى مقر اللقاء فى القناطر الخيرية.. لم يكن الهاجس الذى لاحقنى سليمًا وكنت أنا الذى توليت الرد عليه بنفسى.. اللقاء من الأساس مؤجل من الأسبوع الماضى.. قبل أن ينعقد مجلس الأمن وتبلغ الروح الحلقوم.. على المنصة اصطف مجموعة من أهلنا الفلاحين بجلاليبهم المميزة ليرووا تجاربهم فى الرى الحديث.. بينى وبين نفسى توليت الرد على هاجسى الخاص.. ترشيد المياه ليس قضية مرتبطة بسد النهضة وإن كان السد يجعلها ضرورة.. الترشيد ضرورة حتمية لأننا نزيد ٢٫٥ مليون مواطن كل سنة، بينما حصتنا من المياه ثابتة منذ عشرات السنين.. لقد كان نصيب مصر من مياه النيل ٥٥ مليار متر مكعب بينما عدد سكانها عشرة ملايين، وظل نصيبها ٥٥ مليار متر مكعب بينما عدد سكانها يتجاوز المئة مليون نسمة.. واحتياجات السكان تتزايد ليس فقط من مياه الشرب.. ولكن من الطعام أيضًا.. هذا الطعام يحتاج أن نزرع ملايين الأفدنة الجديدة.. وهذا ما فعلته الدولة من خلال مشروع الدلتا الجديدة، ومشروع المليون ونصف المليون فدان.. هذه الأفدنة نحتاج لكى نرويها إلى مياه.. هذه المياه لكى نوفرها علينا أن نستخدم طرق الرى الحديثة.. ليس للموضوع علاقة بأزمة فى مياه النيل.. إنهم يستخدمون طرق الرى الحديثة منذ عشرات السنوات فى العالم كله.. كل ما فى الموضوع أننا لم نكن هنا.. والآن عادت مصر إلى نفسها وآن أوان التحديث.. إنهم يستخدمون طرق الرى الحديثة فى أمريكا، حيث عشرات الأنهار وملايين الهكتارات من الأراضى الخصبة، وفى أوروبا، حيث نهرى الراين والدانوب.. وفى آسيا.. وفى إسرائيل المجاورة التى حققت طفرة فى الزراعة باستخدام طرق الرى الحديثة.. كان هذا كله يحدث بينما نحن نروى الأرض بنفس طريقة الرى التى كان يرويها بها الفراعنة.. الرى بالغمر.. نفتح المياه لتغرق الأرض تقريبًا يأخذ النبات حاجته وتتبخر المياه الباقية، كانت جذور النباتات تتعفن فى بعض الأحيان وتصيب الفطريات بعض الخضروات مثل البطاطس فتجعلها غير صالحة للتصدير لأسواق العالم المختلفة.. فى الحقيقة كنا بهذه الطريقة فى الرى نشبه من يركب العربة الكارو فى زمن الطائرة الأسرع من الصوت.. أو من يحمل تليفون «نوكيا» فى زمن الـ«أى فون ١٢».. كان لا بد أن نقدم على تحديث طرق الرى فى كل الأحوال.. وبدا التحديث مناسبًا جدًا فى فترة تشهد تحديث مصر كلها وفق تصور طموح، وخطة عمل لا تعرف الكسل ولا الراحة.. كان تحديث نظم الرى حلمًا بعيد المنال فى زمن الرئيس مبارك.. حيث كانت الدولة فى مرحلة تثاؤب طويل.. وكانت تنتهى من فترة الراحة لتبدأ فترة راحة أخرى من جديد.. أذكر أن أول مرة أقرأ فيها عن نظم الرى بالتنقيط وفوائدها، كان ذلك فى مقال لرجل أعمال له استثمارات كبيرة فى الزراعة هو صلاح دياب، ولم يكن لدى الرجل أى أمل فى تحقيق حلمه فى ذلك الزمن.. مرت السنوات، وأصبح الحلم حقيقة فى إطار خطة التحديث الجارية، لكننى لم أقرأ للرجل مقالًا يشيد بتحقيق أحلامه وأحلام العاملين فى الزراعة.. أيًا كان فقد كان أكثر ما أسعدنى فى رحلة القناطر الخيرية أننى رأيت على المسرح أهلنا من الفلاحين، وأن الكاميرات كانت تصورهم.. كانوا هم أبطال الحدث.. وكان الأفندية القادمون ببدلات أنيقة من القاهرة يستمعون لهم.. فكرت كثيرًا أن الاستوديوهات يجب أن تتسع للفلاحين وللعمال وللبدو وللموظفين ولكل المصريين.. علينا أن ننهى احتلال الأفندية للاستوديوهات ولو قليلًا.. روى عدد كبير من المزارعين تجاربهم فى الرى بالتنقيط أو بالرش.. قال بعضهم إنه بدأ فى استخدام هذه الطريقة منذ ٢٠١٥ «العام التالى لتولى الرئيس منصبه»، وتكرر فى الشهادات العملية أن كل المحاصيل زادت بنسبة تقارب ٣٥٪ عما كانت عليه فى طرق الرى التقليدية، فضلًا عن توفير كبير فى نفقات الكيماوى، والأسمدة.. إلخ.. قال الجميع أيضًا إن الطرق الحديثة جعلت المحصولات أكثر ملاءمة لاشتراطات التصدير، وأقل تعرضًا للإصابة بالفطريات والتعفن.. انتهى الجزء الخاص بتجارب ترشيد المياه.. وبدأ الجزء الأكثر سخونة وهو الخاص بسد النهضة.. الحقيقة أننى لم أشعر على الإطلاق بالقلق من موضوع سد النهضة.. وأثق أن مصر ستتخذ القرار الصحيح فى الوقت الصحيح.. ولست من أنصار أن يدلى الزملاء بآرائهم فى اتجاه الحرب أو عدم الحرب.. لأن القرار هو قرار استراتيجى سيادى، يتم اتخاذه وفق معايير معقدة وعلمية بمعنى من المعانى.. وقد كانت هذه هى رسالة د. محمد عبدالعاطى، وزير الرى والموارد المائية، الذى شرح وظيفته هو وزملائه فى الوزارة وقال إنهم مسئولون عن متابعة مياه مصر منذ أن تتكون سحابة فى السماء، وحتى تسقط مطرًا على هضبة الحبشة، وتسير فى طريقها لتتجمع أمام السد العالى.. أعجبنى التشبيه.. وبدا لى وزير الرى أقرب إلى وزير سيادى لا فنى.. يدرك ثقل مهمة وزارة الرى.. فى شبابنا كان أساتذتنا يقولون إن هناك ثلاث مدارس فى الدولة المصرية يتوارث أفرادها الخبرات جيلًا بعد جيل منذ تأسيس الدولة على يد محمد على الخارجية، والقضاء، والرى.. كان وزير الرى يؤكد هذا المعنى وهو يقول إن خبراء الرى المصريين ينتشرون فى أنحاء العالم للاستفادة بخبراتهم حتى أن دولة مثل الهند وفيها مدرسة رى عريقة أسسها البريطانيون أيضًا.. تستعين بخبراء الرى المصريين.. على المنصة صعد شاب نابه هو مصطفى السنوسى، عرفنا بأن عمره ٣٤ عامًا فقط، وأنه عضو الوفد المصرى فى مفاوضات سد النهضة.. عرض لنا صورًا التقطتها الأقمار الصناعية لسد النهضة منذ ثلاثة أيام فقط.. وكانت الرسالة أن مصر تتابع كل «صبة خرسانة» توضع فى سد النهضة وتعلم عن السد ما لا يعلمه الإثيوبيون أنفسهم.. شرح تفاصيل فنية كثيرة خلاصتها أن إثيوبيا لن تصل فى هذه المرة لمعدلات ملء كبيرة.. وقال الوزير إنه لا داعى للضغط على صانع القرار المصرى وتعجله.. وإن مصر لن تسمح بتأثر مياه النيل فى كل الظروف والأحوال.. شاء من شاء وأبى من أبى.. صعد مسئولون مختلفون ليشرحوا جوانب مختلفة من عمل مدرسة الرى المصرية.. وكان أكثر ما لفت نظرى الحديث عن تطبيق حديث خاص بوزارة الرى المصرية موجود على الهاتف الخاص لكل مدير رى يعرف من خلاله منسوب المياه فى الترع والمصارف فى محافظته، ويمكنه من خلاله إصدار الأوامر بملء الترع والمصارف.. أما الوزير فهو يعرف من خلال التطبيق حالة المياه فى مصر كلها، ويمكنه إصدار أوامر بفتح القناطر الخيرية مثلًا بمقدار سنتيمتر واحد.. أو قناطر إسنا بمقدار ٢ سم.. وهكذا.. رغم شمس يوليو الحامية.. ورغم وطأة الجلوس فى حديقة غير مكيفة على أفندى ذى ياقة بيضاء مثلى إلا أننى خرجت من اللقاء متفائلًا وأكثر اطمئنانًا وأكثر اقتناعًا بأننا يجب أن نبدأ حملات مكثفة لترشيد المياه فى الحياة اليومية العادية مثل عادات غسيل الصحون والملابس والوضوء وغسيل السيارات ومسح البيوت وكلها عادات قابلة للتغير والترشيد.. ليس لأننا سنفقد مياه النيل بعد بناء السد، ولكن لأننا نحتاج هذه المياه لزرع المزيد من الأراضى ولنبنى مصر التى نحلم بها جميعًا إن شاء الله.