رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المقارنة مع من قبلها ظلمتها وبمن بعدها أنصفتها

جيهان السادات.. السيدة التى دفعت ثمن ذكائها

الثقافة الذكورية فى السبعينيات لم تقبل وجود امرأة ذكية وجميلة على قمة الحكم.. والإخوان طاردوها بالشائعات

دفعت ثمن رغبة المعارضة فى تشويه الرئيس السادات واعتبروا حضورها العام نقطة ضعفه 

الشائعات عن عدائها لأم كلثوم غير حقيقية.. ونمط حياتها لم يختلف عن الطبقة الوسطى المصرية 

الشيخ المحلاوى هاجمها بوضاعة وعندما انفعل السادات لاموه على انفعاله واتهموه بإهانة داعية 

عانت ماديًا بعد وفاة السادات وموقف أسرة مبارك منها يخلو من النبل والإنسانية 

المزاج المصرى يفضل نمط «الست أمينة» والرجعيون لم يقبلوا انحيازها لحقوق المرأة

صورة جيهان السادات عندى فى مراهقتى تختلف عن صورتها عندى فى كهولتى.. يبدو لى الآن أنها دفعت الثمن الذى تدفعه كل امرأة جميلة وذكية فى مجتمع يقمع المرأة بالفطرة.. دفعت أيضًا بكل تأكيد ثمن عداء تيارات واسعة فى مصر للرئيس السادات.. المجتمع الذى يعتبر سى السيد والست أمينة هما نمطه المثالى وإن أنكر ذلك.. لم يتقبل فكرة امرأة جميلة تخرج للعمل العام.. وتتأبط ذراع زوجها وتحضر معه الحفلات الرسمية.. فى سنوات السبعينيات والثمانينيات كان لدى المصريين تهاويم تجاه عدد من السيدات الجميلات والفضليات جدًا فى الحقيقة.. كانت منهن السيدة جيهان السادات.. التى كان الجميع يتحدث عن مشهد متخيل راقصت فيه الرئيس كارتر فى حفل رسمى وكأنه نهاية العالم ودليل اتهام.. المفارقة أن الواقعة العابرة لا دليل عليها، والمفارقة الأهم أن كارتر يبدو أقرب فى تكوينه إلى رجال الدين المسيحى.. إنه ليس جورج كولونى مثلًا.. ولكن الخيال الشعبى المعادى للمرأة جعل جيهان السادات تدفع الثمن.. نفس الخيال والوضاعة فى الخصومة هى التى دفعت داعية إخوانيًا سليط اللسان مثل أحمد المحلاوى للتعريض بالسيدة وببناتها على منبر المسجد.. وكان من علامات الخلل الأخلاقى أن يعتبر الكثيرون ذلك نوعًا من الشجاعة.. واقعة دفعت السادات بعد صبر طويل إلى إصدار قرار باعتقاله.. ولأنه رجل ريفى وعصبى المزاج فقد انفعل وهو يخطب خطبته الأخيرة فى مجلس الشعب عندما بدأ فى قراءة التقرير الأمنى عن خطب المحلاوى.. كان التقرير يمتلئ بعشرات الوقائع الخاصة بإثارة الفتنة الطائفية وغيرها، لكن السادات توقف أمام ما يؤلمه قائلًا: «بيتعرض لى أنا وعيلتى.. أهو مرمى فى السجن زى الكلب» ورغم أن ما فعله السادات كان رد فعل.. إلا أن الجملة كانت من أسباب اغتياله، حيث ذكرها ثلاثة من المتهمين الأربعة فى التحقيقات ضمن ما أسموه قيام السادات باعتقال الدعاة.. ولم يقل أحد أن الداعية الذى ذكره السادات كان يرتكب إثمًا شرعيًا.. ويمارس الغيبة والنميمة وقذف المحصنات بالباطل.. والحقيقة أنه كلما كان العمر يمضى كنت أكتشف أن السيدة أحيطت بكم من الأكاذيب لم يكن له أساس من الصحة.. من هذه الأكاذيب ما ذكره الكاتب الناصرى عبدالله إمام فى كتابه عن جيهان السادات.. والأستاذ عبدالله من أساتذتى وهو صحفى كبير من مدرسة روزاليوسف.. لكن ما ذكره عن جيهان السادات لم يكن صادقًا فى معظمه، وكان متأثرًا بعدائه لسياسات الرئيس السادات.. وما أقصده هنا تحديدًا هو عداء جيهان السادات للسيدة أم كلثوم، وتسببها فى إيقاف مشروعها الخيرى الذى كانت تنوى إطلاقه لحساب جمعية الوفاء والأمل التى كانت تحت الإشراف المباشر لجيهان السادات.. والحقيقة أننى لم أجد دليلًا على هذه الواقعة إطلاقًا.. بل إننى بقراءة ما كتبه الأستاذ محمود عوض عن مشروع أم كلثوم.. وجدته يتحدث عن اجتماع وحيد عقدته أم كلثوم مع أصدقائها لإطلاق المشروع، وكان من أهم الحضور عثمان أحمد عثمان، وهو صديق شخصى للسادات وصهر للعائلة ولجيهان السادات فيما بعد، وهو فيما بدا من الوقائع كان متحمسًا جدًا للمشروع وتحدث عن طرق مبتكرة لتمويله باكتتاب شعبى، ولكن الموت هو الذى منع أم كلثوم من استكمال المشروع، وليس عداء جيهان السادات لها، الذى لا يوجد أى دليل عليه.. فى هذا الإطار تتردد واقعة أخرى لا دليل عليها، وهى أن السيدة أم كلثوم بحكم خفة ظلها وصداقتها مع كل الضباط الأحرار كانت تتباسط مع الرئيس السادات وتناديه «أبو الأناور».. وأنها استمرت فى ندائه بنفس الاسم بعد توليه الرئاسة إلى أن نبهتها جيهان السادات إلى أنها يجب أن تخاطب الرئيس بشكل رسمى وأن لقبه هو سيادة الرئيس.. وهى واقعة تبدو منطقية تمامًا.. وتحدث كثيرًا.. وعندما يتولى زميل أو صديق منصب الوزارة، مثلًا، فإننا لا نستمر فى مخاطبته بالطريقة القديمة فلا نقول له مثلًا فلان أو يا أستاذ فلان.. ولكن نخاطبه بـ«سيادة الوزير» ما دام الحديث فى إطار العمل.. كما يبدو فى الواقعة لو صحت نوعًا من غيرة الزوجة المصرية على زوجها، وهو سلوك مفهوم ومقبول، ولا أظن به شبهة اضطهاد لأم كلثوم.. وظنى أن الشائعات فى هذا الإطار كان الهدف منها أن يكره الناس السادات وجيهان السادات معًا.. يبدو بعد كل هذه السنوات، وبالوقائع، أن السيدة وأسرتها لم يتورطوا فى أى وقائع فساد كبير، من الذى بات معروفًا فيما بعد، وقد اشتكت جيهان السادات من معاناتها ماديًا بعد وفاة السادات ورفض الرئيس مبارك زيادة معاشها.. مفهوم طبعًا أنها سعت لعيش حياة مرفهة، وأن الرئيس السادات كان يشاركها فى ذلك.. وأن ذلك بدا للمصريين غريبًا بالمقارنة بنمط الحياة الأكثر زهدًا للرئيس عبدالناصر.. لكن الأمر يبدو لى الآن وكأن رفاهية أسرة السادات كانت أقرب لرفاهية أسر كبار الموظفين.. فالأولاد يدرسون فى مدرسة بورسعيد بالزمالك ومعهم المئات من التلاميذ الآخرين.. والمصيف فى المعمورة حتى وإن كان فى استراحة الرئاسة.. وأفراح البنات تقام فى بيت الجيزة أو فى استراحة القناطر.. على عادة المصريين وقتها فى إقامة الأفراح فى بيوتهم.. صحيح طبعًا أن الرئيس السادات زوّج بناته من أبناء أسر ثرية، مثل أسرة عثمان وأسرة عبدالغفار.. لكن هذا أيضًا يبدو سلوكًا طبيعيًا لأى أب مصرى، خاصة وأنه لم ينعكس لامتيازات فاحشة لهذه الأسر كما رأينا فى حالة الأسر التى صاهرت الرئيس مبارك، مثلًا، حيث تمت محاكمة صهريه بتهم الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضى الدولة.. ما أقصد أن أقوله إن كل الاتهامات التى وجهت للسيدة جيهان ولأسرتها بدت باهتة وساذجة بالمقارنة بصور الفساد التى رأتها مصر فيما بعد، وبالذات فى العشر سنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك.. بل بدت السيدة جيهان نفسها سيدة من الزمن الجميل الذى يحن له المصريون.. من الحكايات التى تبدو الآن مضحكة رغم قيمة من يرويها، ما رواه المفكر اليسارى د. عبدالعظيم أنيس عن رفضه إعطاء درس خصوصى لجمال السادات وهو طالب فى الثانوية العامة.. حيث كان د. أنيس أستاذ الرياضيات المعروف مستشارًا لوزير التربية والتعليم، وهو الذى يضع امتحان نهاية العام للثانوية العامة، وروى أن وزير التربية والتعليم قد سأله إن كان يقبل أن يشرح لجمال السادات بعض ما تعسر عليه فهمه.. فرفض بشدة.. ثم كتب الواقعة فيما بعد باعتبارها دليلًا على فساد أسرة السادات!!! بمعاييرنا الآن تبدو هذه واقعة شديدة السذاجة، فالرجل رفض أن يتعامل مع ابن الرئيس ولم يمسه أحد.. ثم إننا رأينا مصريين بعد ذلك يحاصرون لجان الامتحانات وينقلون إجابات الأسئلة للطلاب بمكبرات الصوت.. ويهددون المراقبين بالأسلحة.. لذلك فإن طلب الرئيس المهذب والخجول أن يأخذ ابنه درسًا خصوصيًا لدى مستشار المادة يبدو ساذجًا جدًا وبريئًا جدًا بمعايير هذه الأيام.. نفس الخيال الشعبى الذى يرفض أن تكون المرأة جميلة وذكية معًا هو الذى رفض قبول حصول جيهان السادات على ماجستير الأدب العربى من جامعة القاهرة، وأدان الأساتذة الذين درسوا لها.. وأشاع أنها حصلت على الرسالة عن طريق المجاملة كونها زوجة الرئيس.. والحقيقة أنه لا دليل واحدًا على صحة هذا الاتهام.. وقد أنصف الزمن السيدة حتى أصبحنا نرى حاصلين على رسائل ماجستير لا يحسنون الإملاء ولا الكتابة، ويسرقون الرسائل التى يتقدمون بها.. وحتى الآن لا أحد يعرف ما الغريب فى أن تحصل سيدة من الطبقة الوسطى، لها أم بريطانية، تلقت تعليمًا ابتدائيًا وثانويًا جيدًا جدًا فى الأربعينيات، وأتاح لها الحظ أن تكون زوجة واحد من حكام مصر منذ ٥٢ فاتسعت مداركها ومشاهداتها وأفقها بحكم ما ترى وتسمع وتعاصر.. والحقيقة أيضًا أنها لعبت دورًا فى إقامة صلة بين عدد من أساتذتها فى قسم اللغة العربية وبين الرئيس السادات.. لكن ذلك كان فى آخر سنتين من حكمه.. وبدا الوقت متأخرًا على كل شىء.

من المحطات الغامضة فى حياة جيهان السادات معاناتها بعد وفاته، والعلاقة السيئة مع الرئيس مبارك وأسرته، واضطرارها للسفر للولايات المتحدة الأمريكية للتدريس فى إحدى جامعاتها.. وروايتها عن أنها كانت مضطرة لذلك لأن معاش الرئيس السادات لم يكن يكفيها.. من المحطات الغامضة أيضًا قيام الصحفى الراحل إبراهيم سعدة بالهجوم الشخصى عليها فى بداية الألفية تعبيرًا عن توتر علاقتها بالرئيس مبارك.. وتطرق المقال لأمر شخصى لا يشينها فى شىء، لكن ذكره كان تعبيرًا عن عدم النبل والرقى فى الخصومة، وكان محوره أيضًا الطعن فى السيدة، لمجرد كونها امرأة جميلة وأن هذا يتنافى مع فكرة المصريين عن المرأة التى تظهر فى العمل العام.. حيث يجب أن تتخلى عن أنوثتها أو تدارى هذه الأنوثة قدر الإمكان.. المقارنة كانت هى سبب الظلم الذى تعرضت له جيهان السادات، وكانت أيضًا سبب إنصافها.. المقارنة التى ظلمتها هى مقارنتها بالسيدة تحية كاظم، زوجة الرئيس جمال عبدالناصر، وهى سيدة عظيمة اختارت أن تعيش فى الظل ولا تخرج للعمل العام، وربما كانت حياتها مع أسرتها أكثر تقشفًا.. وهو نموذج أقرب لثقافة المصريين وطباعهم وتفكيرهم الذى يرى أن السيدة المثالية هى «الست أمينة».. حتى وإن أنكروا ذلك.. أما المقارنة التى أنصفتها فهى مقارنة نمط حياتها بنمط حياة أسرة الرئيس مبارك.. حيث الثراء المبالغ فيه.. والاتهامات التى يعرفها الجميع والطموح الذى يتعدى فكرة الظهور العام إلى الحكم الفعلى للبلد ومحاولة وراثته والبيزنس الذى يتخطى مئات المليارات والأرصدة فى بنوك الخارج.. وهى كلها أمور أنصفت السيدة جيهان السادات وأسرتها.. وجعلت الاتهامات التى وجهت لها تبدو ساذجة ومضحكة أيضًا.. رحم الله سيدة ذكية وجميلة دفعت ثمن ذكائها وجمالها ومحاولتها دفع المرأة المصرية للأمام فى زمن كان المجتمع كله يعود فيه للوراء.