فقه الدولة.. حديث الأسرار
د.محمد الباز يكتب: قصة العبور الكبير إلى الدولة الوطنية
يظل التاريخ مخبوءًا فى ذاكرة صناعه وشهوده.
يرحل بعضهم دون أن يفصحوا عن شىء، معتبرين أن ما يعرفونه ليس ملكًا لهم، بل هو ملك للدولة التى وضعتهم فى مراكزهم التنفيذية، لذلك ليس من حقهم أن يُفرجوا عن شىء مما تكنه صدورهم، يفعلون هذا رغم معرفتهم بأن ما لديهم من حق الأجيال التى ستواجه الماضى بأسئلة كثيرة، وترى أنه من حقها أن تجد إجابات كاملة ومقنعة عليها.
ويستسلم بعضهم لغواية التوثيق فيكتبون مذكراتهم وما شهدوا عليه من أحداث.
لكن للأسف هؤلاء، من ناحية، قليلون لدرجة تصل إلى الندرة.
وللأسف الأشد فإن ما يكتبونه ليس القصة الكاملة، لأنهم يرحلون فى الغالب وبقية القصة مقموعة فى سراديب ذاكرتهم.
شاءت الأقدار أن أكون فى مطابخ الصحافة المغلقة- وهى مطابخ قريبة بحكم تكوينها ووظيفتها من مطابخ السياسة الملغمة بالأسرار والحكايات- منذ بداية الأحداث الساخنة التى شهدتها مصر، بداية من يناير ٢٠١١ وحتى الآن، كانت السنوات التى سبقت نقطة الفوران هادئة ومملة ورتيبة، رغم ما بها من أحداث، لكننا كنا نعيش عصر المواءمات الكبرى.
يعتقد كثيرون أن المهمة الأساسية لأعداء هذا الوطن وخصومه كانت كسر مؤسساته التى تسند عموده الفقرى، فيسقط من تلقاء نفسه ويتهاوى دون أن يضربوه بأول ضربة فأس.
هذا صحيح بالطبع، ولا شك فيه على الإطلاق، لكن كانت هناك مهمة أخطر وأعمق، سبقت محاولة كسر مؤسسات الدولة وتشتيتها وتفتيتها، وهى مهمة تزييف الوعى، وتضليل جموع الشعب، وصرف انتباهه عن قضاياه الأساسية، وشغله بما يعتقد أنه صحيح ومناسب وداعم لمستقبله، رغم أنه ليس كذلك أبدًا.
لقد تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى كثيرًا عن أحداث ٢٥ يناير، وهو الحديث الذى جاء على حقيقتها دون مواربة، ووضعها فى حجمها بشجاعة وجرأة دون تهوين أو تهويل.
من بين المرات التى تحدث فيها الرئيس مواجهًا وموضحًا حقيقة ما جرى، فى ١٩ مايو ٢٠١٨ وفى جلسة «اسأل الرئيس» بالمؤتمر الخامس للشباب قال: حين حصلت أحداث ٢٠١١ قلت إن سببها عدم إدراك الناس للواقع المصرى.
وفى ١١ أكتوبر من نفس العام، وعندما كان يتحدث فى الندوة التثقيفية التاسعة والعشرين للقوات المسلحة، قال: إذا كنا مهتمين بحفظ البلد وحمايته، يجب أن ندرك الصورة الكلية للواقع الذى نعيشه، وياما سمعت كلام مرتب عن واقعنا ومستقبلنا، ودايمًا أقول إن ٢٠١١ علاج خاطئ لتشخيص خاطئ».
يمكننا أن نضع هذا التعبير بين قوسين «علاج خاطئ لتشخيص خاطئ»، تأسيسًا على أنه واحد من التعبيرات السياسية المهمة والملهمة فى توصيف ما حدث على الأرض.
لقد كانت هناك مشاكل حقيقية يعانى منها الجميع، لا يستطيع أحد أن ينكر هذا.
وكان هناك مرض عضال يعانى منه جسد الوطن الذى كان منهكًا، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا أيضًا.
لكن الأزمة التى لم يفطن لها أحد أن هناك من تولوا تشخيص المرض، ولأنهم كانوا أصحاب غرض، فقد شخصوا المرض على هواهم وطبقًا لمصالحهم الشخصية.
التشخيص كان خاطئًا وعليه فقد كان العلاج هو الآخر خطأ، ولأننا سقطنا فى هذه الهوة السحيقة، فقد كان لا بد من التبعات التى عانينا منها، لكن الأقدار كانت رفيقة بنا عندما حشدت المصريين ليصححوا الخطأ بخروجهم الكبير فى ٣٠ يونيو ليقرروا مصيرهم ويختاروا طريقهم تحت قيادة الزعيم الذى هتفوا له فى ميادين الجمهورية كلها «انزل يا سيسى.. مرسى مش رئيسى».
كانت هذه نقطة نور فى مساحة الوعى المصرى العام، هذا الهتاف يترجم سر الجين المصرى الذى بسببه استمر هذا الشعب ولم ينقرض.
فالمصريون يعرفون الخطر الحقيقى من الخطر الزائف.. ينتبهون فى لحظة الخطر الحقيقى، تجدهم وقد تحولوا تمامًا للدرجة التى تعتقد أنهم شعب آخر.
ففى اللحظة التى أدرك فيها المصريون أن جماعة الإخوان الإرهابية ستوردهم موارد التهلكة، وأن مندوب مكتب الإرشاد فى قصر الرئاسة ليس رئيسًا حقيقيًا لمصر، هتفوا ضده بوصفه بالفعل ليس رئيسهم.
المشكلة التى تقابلنا هى أننا بعد أن نمسك بنقطة النور نجدها تتفلت من بين أيدينا، والدليل على ذلك أن كثيرين منّا ضلوا وتاهوا وفقدوا البوصلة، فوجدنا أنفسنا فى حاجة إلى التنبيه والإشارة إلى الطريق الصحيح.. وهو طريق الوطن الخالص لكل أبنائه وليس لفئة قررت أن تسرقه لصالحها وحدها.
بعد انتصار الشعب المصرى على خصومه مجتمعين، عاد طيور الظلام إلى سيرتهم الأولى، تكتلوا علينا، وكان لافتًا أن اختلافاتهم الفكرية والأيديولوجية لم تمنعهم من الجلوس على مائدة واحدة والتخطيط لما هو قادم.
أدرك هؤلاء المتآمرون أن نجاحهم فى معركة الوعى سيسهل عليهم الانتصار فى المعارك الأخرى مهما كانت كبيرة ومتشعبة.
كانت الخطة أن تختلط المفاهيم، فالإرهابيون بالنسبة لهم معارضون سياسيون، وما يحدث فى سيناء ليس اعتداءً على الدولة والشعب، بل يعد تعبيرًا عن الرأى، والشهداء الذين يرتقون إلى الله وهم يدافعون عن الوطن يقتلون الناس خارج القانون، والثورة التى قام بها الشعب بإرادته الحرة ليست سوى انقلاب، والتنمية التى تحدث على أرض مصر ليست من أجل الشعب المصرى.
كل انتصار صوره خصوم مصر وأعداؤها على أنه هزيمة.
وكل إنجاز تعاملوا معه على أنه فشل.
وكل مكسب داخلى أو خارجى تعاملوا معه على أنه خسارة.
لهذا السبب تأتى أهمية الضربة الدرامية الثلاثية التى يقودها صناع الدراما المصرية فى الشركة المتحدة «الاختيار ٢، القاهرة : كابول، هجمة مرتدة».
إننا لا نجلس أمام هذه المسلسلات لنستمتع بحكايات من دفتر الوطن، نسلى بها أوقاتنا ونزجى فراغنا، ولكننا أمام فصل من فصول المعركة الكبرى، فهذه المسلسلات تكشف مؤامرة القوى الدينية والمدنية على مصر، وهى المؤامرة التى بدأت منذ سنوات طويلة، فالحكاية لم تبدأ فى ٢٠١١ ولكن كانت لها مقدمات كثيرة وممتدة ومتشعبة.
أعتقد أنك توقفت طويلًا أمام ما يمكننا اعتباره ملاحظة منطقية، ولا بد أنك سألت نفسك: إذا كانت القضية المصرية عادلة إلى هذه الدرجة، وإذا كنا على حق إلى هذه الدرجة، وإذا كانت الملفات معروفة ومتاحة لدى الأجهزة الأمنية، وإذا كان سجل الشهداء معروفًا وحكاياتهم موثقة بالصوت والصورة، فلماذا تأخر عرضها على الرأى العام كل هذه السنوات؟.. ولماذا لم تظهر هذه الأعمال إلى النور بعد الثورة الشعبية على الإخوان وإجبارهم على الرحيل وكشف القوى المدنية وتسكينها فى حجمها ومكانها الصحيح؟
أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تختلط فيه مقتضيات السياسة بتعقيدات الواقع.. وتتشابك ضرورات الفن مع محددات محاولات التوثيق العلمية.. وتتجاور الدوافع الوطنية مع الاستعداد النفسى لدى من تعرضوا لسنوات إلى حملات تشويه وتشكيك كادت أن تقتلع من قلوبهم كل يقين.
كان لا بد من تمهيد الأرض أمام الرأى العام ليقبل هذه الشهادة الدرامية عن الأحداث التى جرت على الأرض، أن يرى الناس بأعينهم محاولات هذه المجموعات على الأرض، حتى إذا ما أخبرتهم الدراما بما جرى يكون لديهم الاستعداد للقبول والتفاعل والتصديق، وهو ما يفسر لنا حالة التماهى من المتابعين للأحداث، فقد كان الجمهور العام شريكًا وشاهدًا على كل ما جرى، صحيح أنه لم يكن على دراية بكواليس الأحداث وأسرارها، لكنه كان يدرك أن هناك ما يُدبر فى الخفاء.
التوقيت إذن مناسب جدًا، وأعتقد أن هذه المسلسلات لو تم تقديمها قبل ذلك بسنوات لما كان لها هذا الأثر الكبير فى نفوس الناس وعقولهم وقلوبهم، كانت فى الغالب ستقابل بموجة عاتية من التشكيك من قِبل المنصات المعادية، وهى منصات كان- ولا يزال- ينفق عليها بالمليارات، وكنا سنجد أنفسنا متورطين فى محاولات التأكيد على صدق ما يشاهده الناس.
وقد تسألنى: وهل كانت الصحافة لا تعرف ما يحدث؟ هل كانت بعيدة عن كواليس التحركات التى قادتنا إلى محاولة صناعة الفوصى فى مصر؟ هل عرفت وتجاهلت؟ أم أنها لم تكن تعى ما يدور أمامها وعلى مرمى حجر منها؟
هنا لا بد أن أقول لك ما لن يجرؤ أحد على البوح به.
بعد أسابيع قليلة من تخلى الرئيس الأسبق مبارك عن منصبه، توفرت لنا صور وفيديوهات كثيرة تسجل وقائع تدريب عدد كبير من الشباب على الثورات السلمية- هكذا كانوا يسمونها- وبدت فى الصور والفيديوهات وجوه عدد كبير ممن كانوا فى ميدان التحرير، رأيناهم وهم ينتظمون فى محاضرات يدرسون مناهج أكاديمية التغيير، تعلموا كيف يتحايلون لكسر الدولة من الداخل، تم تدريبهم على تفجير بلدانهم بأيديهم، وكانوا فيما يبدو سعداء بما يفعلون، رغم أنهم وضعوا أنفسهم فى خانة الخونة بقرارهم ورضاهم وبسعيهم وراء المكاسب الصغيرة التافهة الدنيئة المنحطة.
وقر فى عقولنا أن المسألة لم تكن عفوية أبدًا، وأن هناك أيادى خارجية خططت ودربت من سيقوم بالتنفيذ، وهؤلاء كانوا يصدرون أنفسهم على أنهم يخوضون معركة الوطن.. رغم أنهم كانوا يتاجرون بالوطن وقضيته عندما وضعوه على مائدة من يدفع أكثر، وكان هناك كثيرون على استعداد لأن يدفعوا ولأعلى سعر.
دارت مناقشة لم تكن هادئة حول نشر تقرير صحفى محايد ومحترف عن هذه الصور والفيديوهات وفضح المؤامرة مبكرًا، لكننى أعترف لكم أننا تراجعنا، وسأكون صادقًا إذا قلت إننا جَبِنّا.
كان أبطال الواقعة التى وجدناها بين أيدينا نجومًا فى الشارع، يحركون الأحداث إلى الوجهة التى يريدونها، وقد قدرنا أن فضحهم ستكون له عواقب وخيمة، فقد كانوا قادرين على التشكيك فى كل ما ينشر حولهم، وكانوا سيجدون من يدافع عنهم، فقررنا إرجاء النشر، فربما يأتى الوقت الذى نتمكن فيه من أن نقول للناس ما لدينا.
بعد شهور قليلة من هذه الواقعة تلقى عدد كبير من الكتاب والصحفيين والمثقفين دعوة من وزارة الدفاع لاجتماع مهم، لم يكن أحد يعرف ما طبيعة هذا الاجتماع، ولا من سيقابلونه فيه؟
كانت المفاجأة أن من استقبل المدعوين هو اللواء عبدالفتاح السيسى الذى كان وقتها مديرًا للمخابرات الحربية.
لساعات طويلة تولى اللواء عبدالفتاح السيسى شرح تفاصيل وأطراف المؤامرة التى دُبرت لمصر داخليًا وخارجيًا، وكيف تصدت القوات المسلحة للمؤامرة ورموزها باحترافية شديدة.
لم يكن حديث اللواء عبدالفتاح السيسى وقتها إنشائيًا، ولكنه كان مدعومًا بالوثائق الكاملة، التى وضعت الجميع أمام أنفسهم، والغريب أن عددًا من الذين حضروا هذه الجلسة وبعد أن عرفوا كل ما حدث، انحازوا للمتآمرين وتماهوا معهم تمامًا، ووافقوهم على ما يقولونه، بل وصل الأمر إلى أنهم تحولوا إلى دعاة لهم، وتطوعوا بغسل سمعتهم، وهو ما كان غريبًا ومريبًا فى آن واحد.
المؤامرة على الدولة المصرية ومؤسساتها الوطنية كانت معروفة إذن، ولأن الأحداث كانت أقوى من الجميع، فكان لا بد من إدارة الأزمة بتطويع المؤامرة حتى نصل بها إلى مصبها، فالتعامل معها بعنف لم يكن مجديًا، ولذلك رأينا شياطين الإخوان وهم يحتلون الصورة كاملة، وبدا للبعض أن هذا التمكين يتم بالتراضى، رغم أنه لم يكن فى حقيقته إلا مد الحبل حتى نهايته، لتثبت الأحداث أن هذا الحبل نفسه هو الذى ستشنق به الجماعة الإرهابية نفسها.. وقد سار السيناريو إلى منتهاه تمامًا، وكان هناك من يشاهده عن قرب ويعرف أن هذه ستكون النهاية.
كانت القوات المسلحة والأجهزة السيادية تعرف جيدًا ما يُخطط لمصر، فتعهدت من اللحظة الأولى أنه لن يتمكن أحد من الإفلات بخطته أو مؤامرته، ولأنها مؤسسة احترافية فقد استعدت جيدًا للمواجهة، وأعتقد ما نراه فى الضربة الدرامية الثلاثية يؤكد لنا ذلك تمامًا، فهذا الوطن له حماته الذين لم يتخلوا عنه أبدًا.
على هامش ما نشاهده الآن فى الضربة الدرامية الثلاثية يمكننا أن نتوقف قليلًا عند الطريقة التى يتكلم بها الرئيس عما جرى فى مصر خلال السنوات الماضية، فعندما يتحدث فى لقاءاته العامة للشعب المصرى عما كان يراد لهذا الوطن، فهو يتحدث بلغة العارف عن قرب، أحاديثه ليست مستندة إلى تقارير تلقاها فقط، ولكنها أحاديث من باشر الأمر على الأرض، والتقى أصحابه وتحدث معهم عن قرب، وأدرك من حواراته معهم ماذا يخططون وأى شىء يريدون، ولذلك فعندما يقول إنه لن يتكرر مرة أخرى، فهذه ليست أمنية لديه، وإنما قرار.
دعونى أصل بكم إلى ما أريده هنا، وما الذى سنفعله معًا عبر هذه الأحاديث التى ستغلب عليها وقائع- ربما تنشر لأول مرة- وتفسيرات كان كثيرون منّا يبتعدون عنها طلبًا للسلامة وتحاشيًا للصدام مع جماعات ضغط، أخذت من الإرهاب الفكرى والسياسى سبيلًا لإسكات من يقترب.
الأمر ببساطة يتعلق بالقضية الأهم بالنسبة لى- ولكم بالطبع- وهى قضية الوعى العام.
سنقف عند قضية الوعى هنا بعيدًا عن الإطار الذى يحاول أن يضعها البعض فيه، فهى بالفعل القضية الأهم، أو لنسمى الأمور بمسمياتها إنها المعركة الأهم والأخطر، التى نراهن على أننا لا بد أن نكسبها، لأن خسارتها معناها خسارة لكل شىء.
لقد انتهى عصر الحروب التقليدية، وتلاشت تمامًا تأثيرات الأسلحة القديمة، وتحتل المسرح الآن الأدوات التى تتعامل مع العقول.
يمكننا أن نسميها حرب الشاشة والميكروفون.
حرب النبضات التى تبعثها المواقع الإلكترونية.
حرب البوستات والتغريدات والإنفوهات والفيديوهات ما صح منها وما بطل.
حرب النكتة اللاذعة والسخرية المتجاوزة والكوميك الصاخب، وكلها أدوات لاغتيال الشخصيات والتشهير بها، فكسر الهيبة- دولًا أو أشخاصًا- هو البداية، وأى كسر بعدها ممكن وسهل.
فى اللحظة التى أعلن فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى عن قبول دعوة المواطنين له، ورشح نفسه للرئاسة- ٢٦ مارس ٢٠١٣- كانت ملامح المعارك القادمة أمامه واضحة.
المعركة الأولى كان عنوانها «البقاء».
فالدولة نفسها كانت مهددة، الاستهداف كان على المشاع، والرغبة كانت جعل كل شىء على الأرض، فالجماعة الإرهابية وحلفاؤها قرروا أن يستردوا ما فقدوه، وكان منطقيًا أن يفكروا فى هدم كل شىء حتى يتسنى لهم أن يبدأوا من جديد.
المعركة الثانية كان عنوانها «البناء».
كلنا كنا نعرف أننا بالفعل نعيش فى شبه دولة.. ولا أعرف حتى الآن تفسيرًا للصدمة التى أصابت البعض عندما استخدم الرئيس عبدالفتاح السيسى هذا التعبير تحديدًا.
يومها كنت هناك أشارك فى فعاليات الاحتفال بإعطاء إشارة البدء لحصاد القمح لمشروع المليون ونصف المليون فدان، وقف الرئيس وفى خلفيته حقول القمح بمنطقة سهل الغاب بالفرافرة، وقال: «إن مصر يجب أن تتحول إلى دولة حقيقية، خاصة أن مصر حاليًا ليست دولة حقيقية، ولكنها شبه دولة، مصر يجب أن تصبح دولة مؤسسات ودولة قانون يحترمها العالم».
تلقيت التعبير دون دهشة، واعتقدت أن استقباله العام لن يختلف عن استقبالى له، إلا أن من يتربصون للكلمات وبالكلمات، استغلوا التعبير وجعلوا منه نقطة انطلاق لحرب نفسية، رغم معرفتهم أن التشبيه صحيح، وأن الرئيس لم يتجاوز أطراف الحقيقة فيه.
كلنا كنا نعرف أن عقودًا طويلة مضت دون أن تمتد يد البناء الحقيقية والجادة إلى مصر.. ولم يكن ذلك بسبب قلة الإمكانات أو ضعفها، ولكن لأنه لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية، يعرف أصحابها قدر البلد الذى يديرونه والشعب الذى يحكمونه.
وكلنا كنا نعرف أننا نقيم فى بيت قديم خاصمه عمال الصيانة منذ سنوات طويلة، وأنه يمكن أن ينهار فى أى لحظة، ولم يكن أحد يستمع إلى من يشكو أو إلى من ينصح.
لكننا كنا ننتظر من يأتى ليعمل.. نشاهده عن بعد ونحاسبه على النتائج التى فى الغالب لا تعجبنا فنهاجمه ونسخر مما فعله.
بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ تغير الأمر كثيرًا، فقد أدرك الشعب أنه إن لم يعمل بنفسه فلن يسعفه أحد، وإن لم يتقدم إلى البناء والتنمية فيمكن أن يخرج من بوابة التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد.. وهو ما يفسر الاستجابة والتفاعل بين دعوات الرئيس للعمل وبعث الروح فى كل اتجاه.
المفارقة أننا ونحن نخوض المعارك الكبرى من أجل بقاء الدولة وبنائها، لم ننتبه بالقدر الكافى إلى أن هناك معركة ثالثة لا بد أن نخوضها، وهى معركة تحصين ما نحققه على الأرض من الشائعات والأكاذيب والتشويه والشوشرة.
الأمر لا يقف عند حدود الرد على محترفى الأكاذيب، ولا على هؤلاء الذين قادوا مخططًا لهزيمة المواطن المصرى من داخله بتشكيكه فى كل شىء، ولكنه يمتد بنا إلى محاولة بناء عقلية واعية، تكون قادرة على الفرز والتجنيب، تأسيس منظومة يكون كل مواطن فيها جنديًا من جنود الوطن، يدافع ويدفع عنه الأذى وهو كثير ومستمر ولن ينقطع.
إننا هنا سنروى الحكاية معًا.
كيف خططوا لإسقاط الدولة.. لتقويضها من الداخل بأيادى أبنائها، وكيف استطاع حراس الدولة حمايتها والخروج بها من مأزقها الكبير.. كيف استطاعت مصر رغم كل ما واجهته أن تحقق عبورًا كبيرًا إلى شاطئ الدولة الوطنية المتماسكة التى هى الغاية الكبرى لمن يريد أن يحيا.