رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخروج الكبير لـ«إخوان تونس»



فى كلمته بمناسبة أداء حكومة هشام المشيشى اليمين الدستورية ٢ سبتمبر الجارى، توعَّد الرئيس التونسى قيس سعيد مَن وصفهم بـ«المتآمرين الخونة وأذيال الاستعمار الذين باعوا ضمائرهم ووطنهم»، وهدد بفتح ملفاتهم وتقديمهم للقضاء، مؤكدًا دعمه للحكومة فى مواجهتهم.. هجوم سعيد على الإخوان بات علنيًا، ما نقل الصراع إلى مرحلة جديدة، بدأت بعد احتجاجات مدينتى «رمادة» و«تطاوين» جنوب تونس يوليو الماضى، عندما أكد سعيد للمجلس الأعلى للجيش والقيادات الأمنية «أن هناك من يسعى لتفجير الدولة من الداخل، عبر ضرب مؤسساتها وتغييب سلطاتها»، فى إشارة إلى محاولات «حركة النهضة» توظيف الاضطرابات ضد مؤسسات الدولة خاصة الجيش الوطنى.. العملية الإرهابية الأخيرة فى سوسة ٦ سبتمبر، تمت فى أول أيام عمل حكومة المشيشى، وهى أول حكومة منذ ٩ سنوات تخرج «النهضة» من تشكيلها.. العملية التى استهدفت إرباك الحكومة، تزامنت مع أزمة سياسية بين سعيد والغنوشى، وطرحت الشكوك حول تورط الجناح العسكرى للحركة فيها.. مشيعو جنازة شهيد العملية رفعوا نفس الشعار الذى رفعوه يوم تشييع جنازة شكرى بلعيد «يا غنوشى يا سفاح يا قاتل الأرواح».. المواجهة بين تونس والإخوان تتصاعد، وكل الشواهد تؤكد أن موعد «الخروج الكبير» من السلطة قد اقترب.
الخلافات امتدت لقضايا السياسة الخارجية؛ الرئيس سعيد وصف حكومة الوفاق الليبية بأنها ذات شرعية مؤقتة، ودعا إلى إرساء شرعية جديدة فى طرابلس، وهو ما اعتبره الغنوشى مساسًا بكيان سياسى تابع لتركيا، ورد بأن «حكومة الوفاق هى الحكومة الشرعية، ولا شرعية دائمة تقابلها، لذلك فهى الشرعية الوحيدة فى ليبيا»، ما يعكس عمق الخلاف بين الرجلَين.. إذاعة موزاييك نشرت تسريبًا للغنوشى أثناء اجتماع مجلس شورى «النهضة»، هاجم فيه موقف الرئيس من الأزمة، واستخدم عبارات مهينة للتقليل من شأنه ومن قدرته على استيعاب الخلاف الليبى.
أعضاء البرلمان اكتشفوا إخفاء الغنوشى طلبًا من لجنة الشئون الخارجية فى البرلمان الليبى بطبرق إلى نظيرتها التونسية يناير ٢٠٢٠، لعقد جلسة عمل ضمن اتصالات الترويج لإعداد مبادرة عقيلة صالح بشأن التسوية السياسية، وتنسيق المواقف بشأن تطورات الأزمة الليبية.. الغنوشى أخفى المراسلة بدافع من الحرص على منع البرلمان الليبى من التواصل مع القوى المؤثرة على توجهات السياسة الخارجية التونسية بالبرلمان، تجنبًا للتأثير سلبًا على الجهود التى كانت تبذلها تركيا لاستقطاب تونس إلى جانبها، وضمان إمداد ميليشيات الوفاق فى ليبيا بالسلاح والعتاد عن طريقها، تحسبًا لدخول عملية «إيرينى» لمراقبة تصدير الأسلحة إلى ليبيا حيز التنفيذ.
اتصال الغنوشى بفايز السراج للتهنئة بالسيطرة على قاعدة «الوطية» العسكرية دفعت ٧ أحزاب برلمانية إلى إدانة الغنوشى، ودعوته إلى عدم الزج بالبرلمان فى لعبة المحاور السياسية، كما طالبت بمساءلته فى جلسة عامة، نظرًا لتجاوزه مؤسسات الدولة وعدم امتلاكه الصلاحية القانونية للتعبير عن أى موقف يتعلق بالسياسة الخارجية التونسية، حيث إن ذلك من اختصاص رئيس الجمهورية وفقًا للدستور، فضلًا عن محاولته توريط تونس فى النزاع الليبى إلى جانب جماعة الإخوان.. رئيس الجمهورية حذَّر الغنوشى «الزم حدودك»، مشيرًا إلى أن حدود مهام منصب رئيس البرلمان ليس من ضمنها الدور الدبلوماسى، أو الميل نحو كفة ما فى نزاع، تلتزم فيه الدولة بالحياد.
العلاقة الخاصة بين الغنوشى وأردوغان ضمن قيادة التنظيم الدولى للإخوان تثير إشكاليات متعددة، الغنوشى تعرض لانتقادات حادة بعد استقباله سفير تركيا بمكتبه داخل البرلمان.. وبعد فشل «الحبيب الجملى» مرشح «النهضة» فى تشكيل الحكومة، توجه الغنوشى إلى إسطنبول يناير ٢٠٢٠ دون إعلان مسبق، والتقى أردوغان فى اجتماع مغلق، تسبّب فى موجة كبيرة من الغضب داخل البرلمان والشارع التونسى، وتم اعتباره لجوءًا إلى قيادة التنظيم الدولى، لإيجاد مخرج لانهيار مشروع «النهضة» لأخونة المجتمع التونسى، بعد أن سحب البساط من تحت أقدام الحركة فى الانتخابات الأخيرة، ما أدى إلى خلخلة كيانها من الداخل، وخروج الخلافات إلى العلن على نحو ينذر بانهيارها.. ١٢٢ برلمانيًا صوتوا على التحقيق فى أبعاد هذه الزيارة بشكل عاجل؛ ووصل الأمر إلى مطالبة بعض النواب باستقالة الغنوشى من رئاسة البرلمان.
النيابة العامة أحالت إلى القضاء دعوى جزائية قدمتها عبير موسى رئيسة «الحزب الدستورى الحر»، ضد الغنوشى وقيادات الإخوان يونيو ٢٠١٨، للاشتباه بضلوعهم فى تسفير أكثر من ٣٠٠٠ شاب تونسى إلى بؤر الصراع فى سوريا وليبيا والعراق؛ وتورط عبدالعزيز الدغسنى صهر «الغنوشى» فيها، ما يعد دعمًا للإرهاب والجماعات المتطرفة، واستشهدت الدعوى باتهامات تضمنها فيلم وثائقى بثته قناة «الشروق» الجزائرية، عن تورط قياديين بـ«النهضة» فى العملية، واعترافات إرهابيين تونسيين معتقلين فى ليبيا، بأن حكومة «الترويكا» فترة حكم «النهضة»، قدمت لهم تسهيلات للسفر عبر المطارات والمعابر الحدودية.. كما استندت إلى وثائق منسوبة للسفارة القطرية بتونس، موجهة لمدير إدارة الشئون العربية بوزارة الخارجية بالدوحة، تؤكد الدور التنسيقى الذى لعبته «النهضة»، فى عملية التسفير، واستقبال الشباب المتطوع بالموانئ قبل نقله إلى ليبيا ومنها إلى تركيا ثم سوريا.. وتواجه «النهضة» اتهامات قضائية أخرى بخصوص امتلاكها جهازًا سريًا يقف وراء عملية اغتيال بلعيد والبراهمى.. وتستند الاتهامات إلى إدانة بعض قيادات التنظيم السرى للإخوان فى تكديس الأسلحة وارتباطها بمخازن الأسلحة التى اكتشفت ٢٠١٢ بمحافظة مدنين الحدودية مع ليبيا.. الجناح العسكرى لـ«النهضة» تكفل منذ ٢٠١١، بربط جسور العلاقات مع إخوان مصر وليبيا، والتنظيمات الإرهابية فى سوريا والعراق، فى ظل دعم مالى ولوجيستى سخى من قطر وتركيا.
عبير موسى تقدمت أيضًا بداية يونيو بمذكرة للبرلمان دعت فيها إلى تصنيف الإخوان منظمة إرهابية، واعتبار كل شخص طبيعى أو معنوى له ارتباطات مع التنظيم، مرتكبًا جريمة إرهابية طبقًا لقانون مكافحة الإرهاب التونسى، ورغم عدم تمريرها، فإن موسى نجحت فى تعرية حركة النهضة، وكشفت تبعيتها للتنظيم الدولى للإخوان، ما أدى إلى تصويت كتلتى «التيار الديمقراطى» و«تحيا تونس» شريكتى «النهضة» فى الحكم لصالح تمرير اللائحة إلى جانب «تحيا تونس» و«الكتلة الديمقراطية»، ما عرضهما لهجوم الحركة.. موسى تتحرك بثبات فى اتجاه تحقيق هدف برنامج حزبها السياسى الذى يتمثل فى إخراج الإخوان من حكم تونس، باستخدام الوسائل القانونية، وتوعية الرأى العام وقوّة الصندوق.
«حملة من أين لك هذا؟» وجهت عريضة إلى رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان يونيو الماضى، مطالبة بالتحقيق فى مصادر ثروة الغنوشى رئيس البرلمان، الذى تملّك خلال ٩ سنوات منذ قدومه من لندن قصورًا وعقارات فى مناطق راقية وسيارات فخمة.. المطلب تم إدراجه ضمن مقترح بتشكيل لجنة مستقلة للتدقيق فى ثروات السياسيين، ضمن إجراءات التصدى للفساد.. وقع على العريضة أكثر من ٥٠٠٠ من البرلمانيين والسياسيين والحقوقيين وفئات مختلفة من المجتمع التونسى.. الانقسامات التى جرت فى صفوف «النهضة» أدت إلى حصار الغنوشى، وإضعاف مكانته السياسية، لا سيما بعد الاستقالات التى شملت قادة مؤسسين للحركة، بينهم نائبها ومرشحها السابق للرئاسة عبدالفتاح مورو وأمينها العام حمادى الجبالى.. عبدالحميد الجلاصى الرجل الثانى فى الحركة استقال نتيجة عدم رضاه عن تسيير المؤسسات الداخلية والخيارات السياسية والتموضع الاجتماعى، إلى جانب انحراف الحركة عن الديمقراطية، واتّهمها بالتلاعب بالرأى العام وقواعده.. شباب الحركة ينتابهم السخط بسبب اصطفاء رئيسها لأقاربه ومؤيديه، وإبعاد معارضيه عن مواقع السلطة والقرار.
النتيجة أن شعبية «النهضة» تتآكل؛ حصلت فى انتخابات برلمان ٢٠١١ على مليون و٥٠٠ ألف صوت.. لكنها لم تتمكن فى انتخابات ٢٠١٩ من الدخول فى أى تحالفات حزبية، لأن معظم الأحزاب المترشحة تبنى حملاتها الانتخابية على معاداتها، نظرًا لما يحوم حولها من اتهامات تتعلق بالاغتيالات والفساد، ما أدى إلى تراجعها لـ٥٥٠ ألف صوت فقط.. مؤسسة «أمرود كونسلتينج» أجرت استطلاعًا للرأى نوفمبر ٢٠١٨، احتل فيه الغنوشى المركز الأخير فى ترتيب الشخصيات السياسية التى تحظى برضا التونسيين، ولم يحصل سوى على ٠.٥٪ من الأصوات.. وفى يوليو ٢٠٢٠ أجرت مؤسسة «سيجما كونساى» بالتعاون مع صحيفة «المغرب» التونسية، استطلاعًا للرأى العام، تفوق فيه الحزب الدستورى الحر بزعامة عبير موسى بنسبة ٣٥.٨٪، على «النهضة» الذى حصل على «٢١.٩٪».. ٦٧٪ من المشاركين اختاروا «الغنوشى» كأكثر شخصية سياسية فى البلاد لا يثقون فيها.. وبخصوص المستقبل السياسى للشخصيات التونسية، أكد ٧٤٪ من المستجوبين أنهم لا يريدون أن يلعب «الغنوشى» دورًا مهمًا فى مستقبل البلاد، وهذه المرة الخامسة على التوالى التى يحوز فيها على مرتبة الشخصية السياسية الأدنى ثقة لدى التونسيين.. نتائج هذه الاستطلاعات تؤكد انهيار شعبية إخوان تونس، ووصولها إلى أدنى درجاتها منذ أن دخلت مجال العمل السياسى الرسمى.
الرئيس التونسى قيس سعيد فى مواجهته للإخوان، يحظى بتأييد الأطراف السياسية المعادية لهم، من القوميين إلى اليساريين «حزب الوطنيين الديمقراطيين» و«حزب العمال» وصولًا إلى الأحزاب ذات المرجعية البورقيبية «الدستورى الحر».. قيس سعيد اتهم «النهضة» فى رسائل مبطنة، بنهب الأموال العامة، واصفًا سياسات الغنوشى، بالفاشلة فى إدارة الشأن العام، وتساءل عن «أموال الشعب التى نُهبت على مدى عشر سنوات، ومصير المليارات التى ضُخت يوم تنظيم الانتخابات؟!».. نواب تحالف «النهضة» ردوا باتهام سعيد بالتفرد فى اتخاذ القرار والتعالى.. اللقاء السرى الذى جمع مديرة ديوان الرئاسة نادية عكاشة، بقيادات أمنية جمدها وزير الإخوان على العريض ٢٠١٣ أثار مخاوف «النهضة»، خاصة أنها تستشعر الخوف من أن يكون إقصاؤها من الحكم تمهيدًا لملاحقتها قضائيًا، فى ملفات تواجه فيها اتهامات خطيرة على غرار ملف التسفير إلى بؤر التوتر، وصرف تعويضات طائلة من خزينة الدولة لقياداتها التى كانت مسجونة، والقيام بتعيينات مشبوهة فى مفاصل الدولة.. تونس مقبلة على أيام صعبة، يطرح فيها الإخوان خيارهم التقليدى على الشعب، إما تصدر السلطة، أو الإرهاب والفوضى، وهو ما نأمل أن يسبقه تفسخ التنظيم بفعل خلافاته الداخلية، وفى كل الأحوال، فإن إخوان تونس فى طريقهم نحو «الخروج الكبير».