رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: المشايخ يكفّرون الخديو فى رمضان

محمود خليل
محمود خليل

كان رمضان عام ١٢٩٩ «يوليو ١٨٨٢» الأشد سخونة فى تاريخ مصر، كان صيفًا قائظًا محتشدًا بالأحداث والتداعيات التى ترتبت على مذبحة الإسكندرية التى وقعت فى شهر رجب ١٢٩٩، وما تبعها من ضرب الإسكندرية ونزول الإنجليز فيها، ثم لجوء أحمد عرابى بقواته العسكرية إلى كفر الدوار لصد هجوم متوقع للإنجليز، حل شهر رمضان والمصريون فى حالة انقسام بيِّن، فمنهم من يؤيد عرابى وحركته التى تحولت من مجرد تمرد لمجموعة عسكرية إلى حركة شعبية تنادى بالحكم النيابى وحق الشعب فى تقرير مصيره، وتهتف فى شوارع المحروسة: «يا توفيق يا وش القملة مين قالك تعمل دى العملة»، والمقصود بـ«العملة» هنا ما حدث فى الإسكندرية، فقد كان أنصار «عرابى» يرون أن المذبحة التى شهدها الثغر البحرى مصنوعة ومختلقة، وأنها لم تكن أكثر من خطوة تحضيرية تبرر للأجنبى النزول إلى الإسكندرية، وعلى الجانب الآخر كانت هناك مجموعة من المصريين تؤيد الخديو وترى أن أحمد عرابى أربك أحوال البر، وأن المحروسة لو احتلت فستكون أفعاله السبب المباشر لذلك، كان هذا الجمع من المصريين يناصرون الخديو ويتبنون وجهة نظره.
لم يكن قد مضى على الشهر الكريم أكثر من ٣ أيام حين بادر الخديو توفيق فى اليوم الرابع منه إلى إصدار قرار بعزل أحمد عرابى من نظارة الجهادية والبحرية بعد خروجه من الإسكندرية وتحركه على رأس القوات إلى كفر الدوار وعسكرته هناك، لم يسكت عرابى على خطوة الخديو، فدعا إلى مؤتمر عام للقوى الوطنية انعقد فى ديوان الداخلية يوم ٦ رمضان ١٢٩٩ تصدره مشايخ الإسلام، اتخذ المجتمعون قرارًا سياسيًا خطيرًا، والعجيب أنهم أسسوه على «فتوى شرعية»، فقد قرروا عزل «توفيق» من خديوية مصر، بناء على فتوى شرعية من الشيخ العارف بالله شيخ الإسلام والمسلمين السيد محمد عليش وشيخ الإسلام الشيخ حسن العدوى، كما يذكر أحمد عرابى فى مذكراته، ونصت الفتوى على مروق الخديو توفيق باشا من الدين مروق السهم من الرمية لخيانته دينه ووطنه وانحيازه لعدو بلاده! الكلام كان خطيرًا على المستوى النظرى، لكن عمليًا لم يكن بمقدور عرابى ومشايخه تفعيل هذا القرار على الأرض.
جرت الأحداث عاصفة بين «توفيق» و«عرابى» حتى وصلنا إلى ٢٣ رمضان ١٢٩٩، حين أصدر الأول بيانًا يؤكد فيه عزل «عرابى» ويهدد فيه من ينحاز إليه من الجنود أو الأهالى بالحرمان هو وأولاده من جميع الرتب والرواتب ومعينات التقاعد وسائر الامتيازات التى كان متمتعًا بها، وفى المقابل واصل «عرابى» العناد، معتمدًا على خطاب دينى واضح يتناغم مع الأجواء الرمضانية، فأصدر بيانًا فى ٢٨ رمضان ردًا على بيان الخديو، بعث به إلى رؤساء الجيش والمسئولين بالمديريات وجميع فروع الحكومة، يدعو فيه إلى العمل بالتوجيه القرآنى الداعى إلى إعداد كل ما هو مستطاع من قوة لقتال الأمة الإنجليزية التى اعتدت على البلاد طمعًا وشرهًا، بعدها انطلق خطباء الثورة، مثل الشيخ أحمد عبدالغنى والشيخ محمود إبراهيم وعبدالله النديم يلهبون حماس الناس ويحرضونهم على الجهاد ضد الإنجليز، وبالغ عبدالله النديم فى خداع الأهالى بأحاديث كاذبة عن القدرة العسكرية لعرابى وقدرة مدافعه على دك حصون الإنجليز، وأن السلطنة لن تسكت على احتلال مصر، وأن بحريتها فى الطريق إلى مصر لتأديب الإنجليز، وتحمس الأهالى أشد الحماس دون أن يدركوا الأوهام التى يعيشون فيها، وظن الأهالى أنهم منصورون بالدعاء فلهجوا فى الشوارع كما يسجل «عرابى» فى مذكراته: «اللهم إن تهلك هذه العصابة الموحدة- يقصد عرابى ومن معه- فلن تعبد بعدها فى مصر، اللهم عليك بالإنجليز، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وأنزل بهم بأسك الذى لا ترده عن القوم المجرمين، اللهم إنا نجعلك فى نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم احصدهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا ترد منهم أحدًا، إنك على كل شىء قدير»!. وكانت الهزيمة.