رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول فى مصر (٢٩)

محمد الباز يكتب: محاولات تجسيد النبى فى السينما من يوسف وهبى إلى القذافى

محمد الباز
محمد الباز

عندما تراجع تراثنا السينمائى على كثرته لن تجد فيه أكثر من خمسة عشر فيلمًا دينيًا- إذا جاز التوصيف- لنا مع بعض منها ذكريات ترتبط بطفولتنا وبالمناسبات الدينية حيث لا تعرض هذه الأفلام إلا فيها غالبًا.
وعندما تفتش فى أوراق تراثنا الدرامى ستجد عشرات المسلسلات التى اقتربت من سيرة الرسول وصحابته، وكلها عرضت أكثر من مرة، للدرجة التى تجد بعضنا يحفظها عن ظهر قلب.
من بين هذه الأعمال لن تجد عملًا واحدًا فكر أن يجسد شخصية النبى، صلى الله عليه وسلم.
لا تتعامل مع الفكرة بعنف، فى الغالب لم يفكر صناع الأعمال الدينية، سينمائية أو تليفزيونية، فى ذلك لأنهم على يقين رسخ فى قلوبهم أن مجرد التفكير فى الأمر حرام، يكلفهم أرق الضمير فى الدنيا والعذاب المقيم فى الآخرة.
لا يعنى هذا أنه لم تكن هناك تجربة لتجسيد شخصية النبى فى السينما المصرية، ولك أن تعرف أن هذه التجربة، التى يقترب عمرها الآن من مائة عام، هى السبب الرئيسى فى منع كل العاملين فى المجال السينمائى من الاقتراب من النبى، صلى الله عليه وسلم.
كانت هذه التجربة مهجورة، لا يعرف الكثيرون عنها شيئًا.
معلومات متناثرة لدى هذا الناقد، أو ذاك الكاتب، عن محاولة الفنان الكبير يوسف وهبى تجسيد شخصية النبى، صلى الله عليه وسلم، مجرد حكاية يتداولها أبناء الوسط السينمائى عن الفيلم الذى لم ير النور لاعتراض الجميع على تجسيد شخصية الرسول.
حتى جاء الناقد الراحل الكبير سمير فريد ليسجل القصة الكاملة، وينشر وثائقها فى كتابه «تاريخ الرقابة على السينما فى مصر».. ورغم أن الكتاب صدر منذ ما يزيد على خمسة عشر عامًا، كان بين القراء تقريبًا فى العام ٢٠٠٣، إلا أنه عندما صدرت طبعة جديدة منه فى العام ٢٠١٧ تعامل معه البعض على أنه كتاب جديد.
سأفتح معكم كتاب سمير فريد، فالقصة تستحق أن ترويها وثائقها دون تدخل منّا.
فى ٢٦ مايو ١٩٢٦ نشرت مجلة «المسرح» ما اعتبرته بيانًا، يقول: اتفق مدير إدارة فرقة وداد عرفى بك مع نجيب أفندى الريحانى على أن يمثل له حلقة من حياة جحا، واتفق مع يوسف وهبى على أن ينتقل مع بعض أفراد فرقته إلى باريس حيث يمثل للشركة رواية «النبى محمد»، ويشترك نجيب أفندى الريحانى فى تمثيل هذه الرواية فيقوم بتمثيل دور «معاذ»، وقد أخذ يوسف وهبى يستعد لإخراج دوره، وصنع لنفسه صورًا فوتوغرافية للشكل الذى ابتدعه لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهى صورة لا تختلف عن صورة راسبوتين التى صنعها يوسف فى كثير أو قليل، إذن ففى عرف يوسف وهبى، يكون نبينا محمد رسول الله، وحامل علم الدين الإسلامى، وناشر كلمته يشبه تماما راسبوتين الجاسوس الدنىء والدجال وزئر النساء.
لم تكتف مجلة المسرح بالخبر الذى كتبته، بل كتب محررها ما يمكننا إعتباره تحريضًا مباشرًا على يوسف وهبى وعلى الفيلم الذى لم يكن سوى فكرة.
كتب محرر مجلة المسرح: أنا لم أكن رجلًا دينيًا، ولا درست قواعد الدين الإسلامى وأوصاف الرسول، إلا أننى وكل إنسان معى يستطيع الحكم بأن النبى محمد يختلف كثيرًا عن راسبوتين، وأن يوسف وهبى ذا المزاج الجنونى والحركات التشنجية والعيون الشهوانية والذى يلوح الابتذال والاستهتار فى منظره العام، لا يصلح مطلقًا لتمثيل هذا الدور الذى يحتاج إلى وقار الرسل وجلال الأنبياء وهيبة الصلاح ورزانة التقوى.
الاعتراض من مجلة المسرح فيما يبدو لم يكن على تجسيد شخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى المطلق، لكنه كان على تجسيد يوسف وهبى للشخصية تحديدًا، وهو أمر يمكننا أن نقبله، خاصة عندما نعرف أن مجلة المسرح لم تكن مجلة فنية موضوعية أو محايدة، ولكنها كانت تميل إلى الإثارة وخوض المعارك بالوكالة.
المشكلة بعد ذلك كانت فى التحريض المباشر، قالت المجلة عبر كاتب التعليق: ما رأى علماء الدين الأجلاء فى هذ العمل؟ إلى فضيلة مولانا الشيخ المفتى الأجل نرفع هذا السؤال: هل يسمح الدين لشخص ما أن يتعدى إلى مقام النبوة الإسلامية، فيعبث بها ويقدمها للعالم أجمع فى صورة شوهاء؟ وما مبلغ علم يوسف وهبى بالدين وأخلاق النبى عليه السلام وصفاته حتى يقدم على إبراز شخصيته؟ ألا يعد هذا تهزيئًا مؤلمًا، ثم هو إهانة جارحة لكل المسلمين؟ ليس من شأنى أن أجيب عن هذا، وإنما أنا أنبه علماء الدين الأجلاء إلى موضع الخطر من هذ العمل، وعليهم أن يقوموا بواجبهم، ويوقفوا هذا العمل الخطر، الفيلم إنتاج شركة ألمانية وفكرته عرضت على يوسف وهبى عن طريق مغامر تركى قال إنه مندوب أتاتورك محرر تركيا، وفى اعتقادى أن من يقدم على تهزىء مقام النبوة يعد خارجًا على الدين الإسلامى، مارقًا عن السنة النبوية مروقًا تامًا.
دع عنك ما فعله كاتب مجلة المسرح، ففى الوقت الذى يتعامل فيه مع علماء الدين على أنه ناصح أمين، تراه يلقنهم ما يجب أن يفعلوه من خلال حكمه على يوسف وهبى بأنه خارج على الدين ومارق مروقًا كاملًا عن السنة.
كان من الطبيعى أن يثير خبر مجلة المسرح وتعليقها الغبار حول يوسف وهبى، أن تتحرك مؤسسات الدولة على الأقل لتستطلع ما يحدث، لكن ضربة البداية فى المعركة ضد المحاولة جاءت برسالة من قارئ نشرتها جريدة الأهرام.
القارئ كان اسمه عبدالباقى سرور، ونشرت رسالته فى ٢١ مايو ١٩٢٦، وكان محددًا فيما أراده، فقد طلب من الحكومة منع يوسف وهبى من السفر لتمثيل رواية النبى محمد، لأن تمثيلها فى باريس بلاد اللهو والخلاعة والاستهزاء بالأديان أمر يستدعى التشهير بالنبى والإساءة لمعتنقى دعوته ويعد حطًا من كرامة المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها.
نبه عبدالباقى سرور الحكومة إلى الخطر الأكبر الذى يراه فى محاولة تمثيل يوسف وهبى لدور النبى، قال نصًا فى رسالته موجهًا كلامه للحكومة: لو تساهلت مع يوسف وهبى فى تمثيل تلك الرواية فسيتلوها لا محالة تمثيل روايات أبشع وأفظع.
هذه الجملة تحديدًا تحمل السر الكبير فى عدم إقدام أحد بعد يوسف وهبى على تجسيد شخصية النبى، فقد تحركت الحكومة بكل مؤسساتها لوأد هذه المحاولة.
قبل أن نصل إلى ما فعلته الحكومة، سأتوقف بكم عند رسالة يوسف وهبى التى أرسلها إلى جريدة «الأهرام» فى اليوم التالى مباشرة لرسالة عبدالباقى سرور، يقول فيها: اطلعت فى عدد الأمس على مقال كتبه مسلم غيور، وبه يشكو لولاة الأمور ما قرأه فى مجلة المسرح عن عزمى على تمثيل رواية النبى محمد بشكل وهيئة لا تليق بكرامة النبوة، ولا تتفق مع عظمة الدين، وقد ذكر حضرته أننى صورت شخصية النبى كشخصية الراهب الدنىء راسبوتين، وهذا الخبر كاذب، وحقيقة لا أصل لها إلّا التشويه والطعن من مجلة أخذت على عاتقها تقبيح كل حسن، والنيل من كرامة كل عامل على خدمة وطنه.
كان يوسف وهبى يعرف أنه فى موقف حرج تمامًا، يحتاج فيه إلى الدفاع عن نفسه، ولذلك شرح ما جرى، يقول: إذا كنت قد رضيت أن ألعب هذا الدور، فليس إلّا لرفعة شأن محمد، صلى الله عليه وسلم، وتصويره أمام العالم الغربى بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلامى، أما الصورة التى وضعتها لهذا الدور فهى صورة أعتقد أنها على الأقل تنبئ عن جلال محمد وطهارته وحسن صفاته.
وفى عتاب بدا واضحًا أن يوسف وهبى يوجه كلامه إلى القارئ الناقد: ليثق سيدى الغيور أننى أول من يعمل على رفعة شأن ديننا الحنيف، ولكن رجائى إليه ألا يصغى لأقوال الإفك وترهات قوم عرفوا بالخديعة والملق.
لم يكتف يوسف وهبى برده على القارئ الذى وصفه بالغيور، بعد ثلاثة أيام فقط وفى ٢٤ مايو ١٩٢٦- وطبقًا للوثائق التى نشرها سمير فريد فى كتابه المهم- وجه رسالة إلى السادة العلماء وجميع الشعب الإسلامى، محاولًا من خلالها أن يكسب الرأى فى صفه.
فى الرسالة تساءل يوسف وهبى: هل أقوم بهذا الدور أم أرفضه؟ مع إحاطتكم علمًا أننى إذا رفضت فسيقوم بهذ الدور ممثل أجنبى وشركة أجنبية لا يهمها من أمر ديننا شيئًا، وإذا تذرعتم بالقول إن أمثال هذه الشرائط ممكن منعها من الدخول إلى البلاد الإسلامية فلا أظنكم تستطيعون منعها فى البلاد الأجنبية، وهذه تكون الطامة، أن ندع القوم يعبثون بنا ويمسخون حقيقتنا، أم نكون نحن أول من يمثل عظمة ديننا الحنيف ونبرهن للعالم الأوربى أنّا أرقى دين، وأن محمدًا زعيم المرسلين.
لم يكتب يوسف وهبى هذه الرسالة فى الغالب ليدافع عن الفيلم وأهمية تصويره فقط، ولكنه كان يدافع عن نفسه أيضًا، فقد تأكد أنه يواجه خطرًا يهدد حياتها، ولذلك شرح قصة الصورة التى قيل إنها ستكون هيئته فى الفيلم.
يشرح يوسف: أما كونى رسمت صورة لهذا الدور تشبه الراهب راسبوتين، فهذا كذب مشين من قوم يكرهوننى، ويحقدون علىّ دون سبب ولا داع غير كونى شابًا قد نجحت فى عملى، وأكبر دليل على سقوطهم أنهم ادعوا رؤية هذه الصور وشبهوها براسبوتين، وها أنا على أتم عدة أن أُرى الصورة لمن يريد أن يراها.
يتحصن يوسف وهبى بعد ذلك بالعلماء الذين خاطبهم، يقول لهم: كما أننى أرفض لعب الدور عن طيب خاطر لو كنت سأجنى من ورائه الأموال الطائلة، إذا رأى السادة العلماء هذا الرأى، وليعلم إخوانى المصريون أن شعارى دينى قبل كل شىء.
بعد ثلاثة أيام من خطاب يوسف وهبى العام، تحركت مشيخة الأزهر، وفى ٢٧ مايو ١٩٢٤ نشرت بيانًا جاء فيه: خاطبت مشيخة الأزهر وزارة الداخلية فى الحيلولة بين حضرة يوسف بك وهبى وبين ما يريد، ولو اقتضى الحال منعه من السفر حفظًا لكرامة النبى ومقامه الجليل الشأن، وقد لقينا من أولى الشأن الذين تحادثنا معهم فى هذا الموضوع الاهتمام العظيم المناسب لأهمية الموضوع المتحدث بشأنه، كما طالبنا أن نخاطب حكومة باريس بواسطة ممثل مصر هناك فى منع تمثيل هذه الرواية.
وزارة الداخلية من جانبها تحركت على الفور، واستدعت يوسف وهبى ليس للتحقيق معه فيما طالبت به مشيخة الأزهر ولكن لتحذيره، وقد سجل خطاب الداخلية إلى المشيخة ما جرى: استحضرنا يوسف وهبى بك وطلبنا العدول عن تمثيل هذه الرواية، فقبل، وسيعلن عن عدوله هذا فى الجرائد، وستتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لمنع إخراج الرواية نفسها.
تحركت السلطة الدينية، وكان لا بد أن تتحرك السلطة السياسية.
أرسل الملك فؤاد رسالة ليوسف وهبى يهدده فيها بالنفى وحرمانه من الجنسية المصرية إذ ما جسد شخصية النبى محمد.
التراجع بدأ من الشركة المنتجة، فى جريدة الأهرام ويوم ٢٨ مايو ١٩٢٦ أى بعد بيان مشيخة الأزهر بيوم واحد، نشر ممثل الشركة وداد عرفى: لا شك أن وضع رواية كهذه داخل برنامج أعمالنا، ولكنه حتى الآن مجرد مشروع، ومن الجلى قبل وضع رواية كهذه أنى بصفتى مؤلفًا ومسلمًا أطلب رأى حضرات علماء الدين، وهذه الاستشارة تعد بالطبع واجبًا محتمًا علىّ، لذلك أرجو أن تعلنوا باسمى بأنه لا يوجد حتى الآن قرار بات فى هذا الصدد، وكونوا على ثقة تامة بأن أعمال شركة ماركوس التى تتناول مشروعات تمثيلية كثيرة فى بلاد مصر الجميلة لن يكون فيها أى عمل يمس دين الأمة.
بعد يومين فقط أعلن يوسف وهبى عن تراجعه عن الفيلم، ونشر هو الآخر بيانًا قال فيه: بناء على قرار أصحاب الفضيلة العلماء، واحترامًا لرأيهم السديد، أعلن أننى عدلت عن تمثيل الدور وسأخطر الشركة بعزمى هذا.
كان من المفروض أن تنتهى العاصفة تمامًا، فالجميع تراجعوا عن الفيلم، لكن يبدو أن هناك من أخذ مما جرى فرصة ليرسخ وضعًا ما زلنا نعانى منه حتى الآن.
من بين وثائق الفيلم التى نجدها فى كتاب سمير فريد، مقالًا كتبه مدرس بالقسم العالى فى الأزهر عنوانه «الحضرة النبوية وفن التمثيل».
لن أتوقف عند الهجوم غير المنطقى على فن التمثيل، فقد بالغ كاتب المقال فى تحقيره والحط من شأنه وشأن كل من يعملون به، لكننى سأتوقف عند ما طالب به من إصدار مرسوم يمنع تصوير الأنبياء- كل النبياء على الشاشة، بالإضافة إلى منع الكتب التى تتعلق بالدين إلا بعد عرضها على اللجنة العلمية التى تكونت فى الأزهر.
لم يبتلع يوسف وهبى الإهانة، رأى أنه تراجع عن تمثيل الفيلم وتجسيد شخصية الرسول، فلا داعى للهجوم عليه أو الحط من شأنه، ولا داعى للهجوم على التمثيل وأهله، ولذلك رد على الكاتب الأزهرى ربما بسخرية تليق به، قال له: تحذيرك من تفشى فكرة تمثيل الأنبياء جاء متأخرًا بكل أسف، فقد مثلوا عيسى وموسى ويوسف ودانيال، ومثلوا الخالق تمثيلًا ما فى مصر نفسها على مسرح الأستاذ سلامة حجازى فى راوية تليماك.
يكشف يوسف وهبى سرًا من أسرار المسرح فى مصر، لا يويد عما قاله، لكنه يؤكد غفلة مشايخ الأزهر الذين أخذوا من محاولته تجسيد شخصية النبى فرصة، واستطاعوا من خلالها فرض رقابتهم على الأعمال الدينية، وهو ما نعانى منه حتى الآن.
تركت هذه المعركة أثرًا غائرًا فى حياة يوسف وهبى الفنية، وهو ما بدا لى من تسجيله لها فى مذكراته التى حملت عنوانًا دالًا وموحيًا جدًا وهو «عشت ألف عام»، يكشف يوسف ما جرى، يقول: فى أثناء الموسم زارنى بمسح رمسيس الأستاذ الأديب التركى وداد عرفى، وقدم لى سيدا يدعى الدكتور كروس، وأفهمنى أنه شخصية لها وزنها، وأنه رسول عاهل تركيا الرئيس أتاتورك ومستشاره الخاص، وجنسيته ألمانية، وطلب منى أن أحدد موعدًا معه لأمر هام جدًا، علمت فى اللقاء أن د. كروس يمثل مؤسسة سينمائية ألمانية مشهورة، وقد نال موافقة رئيس الجمهورية التركية على إنتاج فيلم إسلامى ضخم كدعاية مشرفة للدين الإسلامى الحنيف وعظمته وسمو تعاليمه، وتشارك فى نفقاته الحكومة التركية باسم «محمد رسول الله» وقد أعد السيناريو وصرحت بتصويره لجنة من كبار علماء الإسلام فى إسطنبول، ويظهر فى الفيلم النبى محمد عليه الصلاة والسلام، وتصور مناظره الخارجية فى صحراء السعودية، واقترح أن أرسم شخصية النبى.
لم يقترب أحد محاولًا تجسيد شخصية النبى مرة أخرى فى الأعمال السينمائية، وأعتقد أن هذا لم يحدث إلا مرة واحدة.
كنت أقلب فى أوراق العقيد القذافى بعد أن ثار الليبيون عليه وقتلوه، وأنا أجهز لكتابى عنه «مجنون ليبيا»، وفيها وجدت هذه الحكاية المهجورة.
فمن بين ما رواه المخرج العالمى الراحل مصطفى العقاد عن فيلمه المعجز «الرسالة»، أن القذافى كان يجلس معه عندما كان يعد الفيلم- معمر كان أحد ممولى فيلم الرسالة الكبار- وأنه طلب منه أن يظهر الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، مجسدًا بشخص عربى أو ممثل عربى أو أجنبى.
يقول العقاد: اتسعت حدقتا عينى دهشة، لكننى قلت له: أخ العقيد هذا الأمر صعب جدًا، ويثير الدنيا كلها ضدى وضدك، وربما لن يرضى أحد فى العالم أن يشترى الفيلم أو يوزعه.
وجد مصطفى العقاد إصرارًا من القذافى على إظهار الرسول بشخصه فى الفيلم، فقال له ربما فى محاولة وجدها سانحة للهروب من هذه الرغبة التى كانت للمخرج ورطة كبيرة، فهو من ناحية لا يريد أن يغضب القذافى حتى لا يتوقف العمل الذى كان يعتبره- العقاد- أهم مشروع حضارى لإظهار الإسلام وشخصياته بصورة جديدة وتقديمها للعالم غير الإسلامى، ومن ناحية أخرى يعرف أن تقديم شخصية الرسول مجسدًا بممثل مهما كان شأنه أمر لا يمكن أن يمر بسهولة.
وجه العقاد الحديث إلى وجهة نظر أخرى تمامًا، قال للقذافى: إذا كنت مصممًا على هذا الأمر الخطير، فأرجو أن تأخذ رأى الأزهر الشريف والنجف كمؤسستين دينيتين مسئولتين عن أمور المسلمين السنة والشيعة.
لم يستجب القذافى لما قاله العقاد، ولم يزد على أن قال إن هؤلاء جميعًا رجعيين: «دولا رجعيين ما نكلمهم وغدوة يشكونى عند رؤسائهم وملوكهم، وإنى ما طايق أكلم حد فيهم».
بحيلة فنية تخلص العقاد مما كان يريده القذافى، لكن يظل السؤال: هل استطعنا أن نخدم النبى، صلى الله عليه وسلم، من خلال الدراما؟
أعتقد أننا لم نفعل ذلك.
هل نحن فى حاجة لأن نعيد التفكير فيما قدمنا؟
الإجابة سأتركها لكم.