رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: فضفضة على مائدة إفطار

محمود خليل
محمود خليل

الكبار أيضًا مثل البسطاء يحبون «الفضفضة». ولا تحلو الفضفضة مثلما تحلو فى رمضان، وتزداد حلاوتها ساعة الإفطار، حيث تعلو الوجوه ابتسامة الرضا، بعد ساعات التعب والمعاناة التى ترسم وجوه الصائمين بالضجر والتبرم، خصوصًا إذا جاء رمضان صيفًا. وافق رمضان ١٢٩٦ هجرية شهر أغسطس من عام ١٨٧٩. قبله بشهرين، وتحديدًا فى شهر رجب من العام الهجرى نفسه، كان قد صدر فرمان عثمانى بعزل الخديو إسماعيل وتولية ولده توفيق مكانه، بعد أن ترك له تركة ثقيلة من الديون وشعب يرغب فيمن يرفع جهد الغلاء عنه. جرى «توفيق» على سنة أبيه وأجداده فى نصب الولائم فى رمضان ودعوة كبار الساسة وكذا أمراء الأسرة العلوية إليها. مؤكد أن هذه الولائم كانت عامرة إذا قورنت بفطور البسطاء من أهالى البلاد، كما أن أهدافها لم تكن طقوسية بحتة بل كانت لها أهداف أخرى سياسية. كان من ضمن المدعوين على أول مأدبة إفطار نظمها الخديو توفيق بعد توليه الحكم الزعيم أحمد عرابى الذى حكى فى مذكراته- والعهدة عليه- ما فضفض به الخديو إلى الحاضرين على مأدبة الإفطار. ومن ضمن ما ذكر فى هذا السياق أن «توفيق» قال لهم إن أباه إسماعيل ركب الباخرة المحروسة التى ستقله إلى نابولى وفى حوزته ١٣ مليون جنيه، ثم أردف: «يا ليته ترك للحكومة ولو ستة ملايين لإصلاح شأنها»!. الملفت أن «توفيق» فضفض بعد ذلك بحديث أسر به «إسماعيل» إليه أثناء وداعه بمحطة مصر. فقد عانق «إسماعيل» نجله واغرورقت عيناه بالدموع، وقال له: «لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديو مصر. فأوصيك بإخوتك وسائر الآل برًا. واعلم أنى مسافر وبودى لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التى أخاف أن توجب لك الارتباك»!
كلام مضحك ذلك الذى يحكيه «عرابى» حول الحوار الذى وقع بين الخديو إسماعيل وولده الخديو توفيق، فكيف تمنى إسماعيل أن لو كان قد ذلل بعض الصعاب المتوقع أن تواجه ولده فى وقت خرج فيه بثروة تقدر بـ١٣ مليون جنيه، تحتاج البلاد إلى أقل من نصف هذا المبلغ لإصلاح أحوالها؟!. فإما أن يكون الكلام مغلوطًا أو علينا التسليم بأن المشاعر تغدو محايدة جامدة عندما يتعلق الأمر بالمال، ولكن فيما عداه تفيض إلى حد انهمار الدموع. الخديو إسماعيل من الحكام البنائين، فقد نفَّذ العديد من المشروعات المهمة التى نقلت مصر فى عصره نقلة حضارية كبرى، لكن مشكلته الأساسية أنه أفرط فى الاستدانة، وعندما عجز عن السداد لم يجد أمامه سوى التفتيش فى جيب الرعية. يقول «ميخائيل شاروبيم» صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر»: «وكان إذا نضب الإيراد وأمحلت الخزينة وعز الدرهم عمد إلى الاستدانة وضرب المغارم وتكثير المكوس وفرض الفرض على البلاد شرقًا وغربًا وإعادة أشكال المكوس الغريبة التى كانت على عهد ملوك الجراكسة (الدولة المملوكية الثالثة) وما زال على هذه الحال من السرف والإرغال وأصحاب الأموال تطاوله وهو يمنيهم بالأمانى».
فى أواخر أيامه فى الحكم، حوصر الخديو إسماعيل بالديون، ووصل إلى مرحلة العجز عن السداد، ولجأ إلى واحد من أخبث رجاله وهو إسماعيل المفتش، وزير ماليته، وطلب منه النصيحة، فأشار عليه الأخير باستدعاء الخطاب الدينى فى مواجهة المطلب الإنجليزى الفرنسى بفرض رقابة مالية على مصر، وخلق رأى عام مصرى يتحلق حول فكرة أن القرآن الكريم يرفض الربا من أجل الضغط على الأجنبى بتقليل الفوائد على الديون، وفى الوقت نفسه حشد الرعية وراء فكرة تقضى بقبول المزيد من الضرائب لمواجهة المشكلة الاقتصادية التى تمر بها البلاد. وعندما ناقش «صَديق» هذا الطرح مع المشايخ جاء وفد منهم إلى الخديو، فطلب منهم الأخير رأيهم فيما يقوله وزير المالية، فردوا عليه قائلين: «إن الأموال أموال سموكم، وإننا جميعًا بمالنا ونسائنا وأولادنا عبيد لسموكم، والعبد وما ملكت يداه لمولاه»!