رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تونس تنحاز للتدخل التركى القطرى فى ليبيا


تونس إستأنفت العمل بالخط البحري لنقل البضائع إلى ليبيا، المتوقف منذ 7 سنوات!!، وأطلقت أول رحلة بحرية من ميناء صفاقس باتجاه ميناء طرابلس 25 ابريل، وكشفت نيتها إستئناف الخط الجوي مع ليبيا!!.. وذلك فى نفس الوقت الذى إنطلقت فيه من قاعدة سيجونيلا بجزيرة صقلية الإيطالية، أول مهمة جوية ضمن العملية الأوروبية «إيريني»، لمراقبة تنفيذ حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، التى تستهدف الحد من تدفق الأسلحة والمعدات الحربية والذخائر التركية على ليبيا، ما يفسر رفض تركيا والسراج لها.. تونس تتعرض منذ شهور لضغوط تركية، لتسهيل نقل السلاح لميليشيات السراج في طرابلس عبر موانئها.. تزامن بدء عمل الخط البحرى، مع بدء العملية «إيريني»، يعنى توفير ممر منتظم لدعم الميليشيات عبر تونس، كبديل لذلك الذى خضع للمراقبة الأوروبية.
الخط البحرى بدأ بثلاث رحلات فى الشهر، مع قابلية زيادته الى رحلة أسبوعيًا وفقا لمعدلات الطلب.. المبرر الذى قدمه وزير التجارة التونسى لتدشينه هو النهوض بالصادرات، ودفع الاقتصاد الوطني، وضخ المزيد من العملة الصعبة، بدلًا من عمليات التهريب التى احتكرتها الميليشيات والعصابات، والتى قدرها البنك الدولي بـ500 مليون دولار، من إجمالى حجم المبادلات بين البلدين المقدر بـ700 مليون دولار.
الخط التجاري بين تونس وليبيا سبق إفتتاحه 2013، إلا أن إشتداد المعارك وتدهور الظروف الأمنية فى ليبيا أدى الى توقفه، لكن الغريب ان يُستأنف فى ظروف تدهورت فيها الأوضاع الأمنية بصورة أكثر حدة، وإمتدت المعارك لتغطى مدن الساحل الغربى، من طرابلس حتى معبر رأس جدير الحدودى.. المحامية التونسية وفاء الشاذلي أعربت عن تخوفها من إستئناف عمل الخط الملاحي، ملمحة إلى أنه سيستخدم في تهريب الأسلحة إلى ليبيا بغطاء تجاري، كبديل لوقوف أوروبا في وجه أردوغان ومراقبتها للسواحل الليبية.. وحذر مبروك كورشيد النائب عن حزب «تحيا تونس» خلال جلسة استماع لوزير الخارجية التونسي، من مغبة التورط في المؤامرة التركية بليبيا، متهمًا النظام التركي بإرسال المرتزقة لإراقة الدماء الليبية وتغذية الحرب الأهلية.
إستئناف الخط البحرى ليس بديلًا عن عمليات الشحن البرى التى تتم عبر معبري رأس الجدير والذهيبة، المفروض نظريًا انها متوقفة منذ القرار التونسى بإغلاق الحدود البرية مع ليبيا منتصف مارس لمنع تفشي فيروس «كورونا».. الا ان المجلس البلدي لمدينة زوارة غرب ليبيا كشف فى 21 ابريل عن دخول قرابة 200 شاحنة نقل بضائع من تونس من خلال المعابر الحدودية بدون تنسيق مع غرفة الطوارئ لمكافحة الوباء بالبلدية، وبدون مرور السائقين على الحجر الجمركي أو الصحى، وبدون أخذ «مسحات» للتحليل، ما يعتبر مخالف للإجراءات الإحترازية المطبقة.. مما يؤكد ان عمليات النقل عبر الحدود لاتتوقف، وهى تتجاوز ضوابط الرقابة والسيطرة الموضوعة، مايعكس حضوعها لتعليمات سياسية تثير الريبة بشان محتوى الناقلات.
الكتل السياسية فى البرلمان التونسى أثارها هذا الوضع، عقدت إجتماعًا 17 ابريل دعت فيه الحكومة لإغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية بشكل كامل وفورى، ودعم صندوق وزارة الصحة لمقاومة انتشار الفيروس.. رئاسة الجمهورية كشفت إنحيازها للحكومة، بإستنكارها طلب البرلمان، واعتبرته تجاوزًا لصلاحياته، وتدخلًا فى مهام السلطة التنفيذية، ودعت الى ضرورة احترام كل سلطة لاختصاصاتها، دون تداخل أو «مضاربات سياسية»!!.. رد فعل الرئاسة كان موضع إستنكار شعبى وسياسى، خاصة فيما يتعلق بإطلاق حرية التصرف للحكومة بعيدًا عن رقابة البرلمان، ودون مراعاة للضوابط الضرورية لحصار الوباء، مما يؤكد مراعاة الرئاسة لإعتبارات سياسية تحرص على عدم الكشف عنها، وترفض تدخل البرلمان بشأنها.
والحقيقة ان تونس لاتراعى حجم المخاطر التى تهددها نتيجة لتدفق الأسلحة التركية على ليبيا.. وزارة الداخلية التونسية ضبطت فى يناير الماضى 35 بندقية إقتحام صناعة تركية، ومبالغ مالية ضخمة بالعملات الأجنبية، جرى ضبطها في سيارة نقل بمنطقة بني خداش التابعة لولاية مدنين جنوب البلاد قادمة عبر الحدود الليبية، وكان مقدرًا نقلها إلى منطقة فريانة، التابعة لولاية القصرين غرب تونس، وأكدت التحريات انها كانت موجهة للقيام بعمليات إرهابية ضد منشآت حساسة.. رغم ذلك فهى لاتدرك ان تركيا والسراج يعولان كثيرًا على النقل البحرى عبر ميناء صفاقس، لما له من ايجابيات تتعلق بالسعة الكبيرة للبواخر، مما يمكّنهما من شحن كميات هائلة من الأسلحة والمعدات، فضلا عن تجنب الإعتماد على المعابر الحدودية والطرق البرية نظرًا لتعرضهما للإستهداف.
شبكة «بى بى سى» كشفت إستخدام تركيا لتونس كوسيط فى شحن الأسلحة الى ليبيا، مؤكدة أنه في 24 يناير الماضى أبحرت سفينة «بانا» من ميناء مرسين التركي، تحمل أسلحة وآليات قتال مدرعة ومدافع هاوتزر ذاتية الدفع ومضادات طائرات، وكانت الوجهة المعلنة ميناء قابس التونسي، لكنها اختفت من الرادار على بعد 400 كيلومترا قبالة سواحل ليبيا، ونقلت عن أحد البحارة الذين كانوا على متنها، أن السفينة غيّرت وجهتها المعلنة، لأن إتفاق الخط البحرى لم يكن قد تم التوصل اليه بعد، وعندما اقتربت من ساحل ليبيا في 27 يناير، تعمدت إيقاف جميع أجهزة الاستقبال والإرسال، قبل دخول الميناء وتفريغ شحنتها.. والحقيقة ان البحرية التركية قامت أوائل فبراير الماضى بعملية إنزال للجنود والعتاد على الساحل الليبى قرب الحدود التونسية، وتحت أعين قوات حرس الحدود، لكن تونس لم تعلق، رغم تأكيد الرئيس قيس سعيد على رفض أيّ تدخّل أجنبي في ليبيا.
***
التساؤل عن دوافع الموقف التونسى يكمن فى خصوصية العلاقة التى تربطها بقطر وتركيا.. قيس سعيد تقلّد مهامه كرئيس لتونس أكتوبر 2019.. إستقبل أردوغان ديسمبر من نفس العام، ومن بعده تميم بدعوة رسمية فبراير 2020، وذلك كان إختيارًا سياسيًا لم يراع ما يشبه الإجماع فى الموقف العربى حول رفض التدخل التركى بالمنطقة، وتجاهل موقف دول المقاطعة العربية لقطر.. الرئاسة التونسية تعرف ماذا تفعل، لأن قطر تحتل المرتبة الثانية من حيث حجم الاستثمارات المباشرة، بنحو 3 مليار دولار، تمثل 16% من إجمالى الاستثمارات الإجنبية في البلاد.. والمكتب الوحيد لوكالة الاستثمار الخارجي التونسي في العالم العربي تم فتحه في الدوحة.
راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة «إخوان تونس» رئيس البرلمان، يسعى من ناحيته لتمكين تركيا وقطر؛ نسَّق مع الحكومة لعرض إتفاقيتى تعاون مع الدولتين.. الأولى مع تركيا تسمح للأتراك بتملك العقارات والأراضي الزراعية في تونس، رغم انهما محميتان من الملكية الأجنبية، وتمنح المستثمر التركى حق الاقتراض من البنوك المحلية، وتحويل الأرباح للخارج، وتنزع اختصاص القضاء التونسي عليه.. الثانية مع قطر وتقضى بحق الصندوق القطرى للتنمية فى جلب شركاء اجانب لمشاريعه بتونس، دون تدخل الدولة التونسية!!، إضافة لحق تحويل الأرباح للخارج.. نواب البرلمان رفضوا التصديق على الإتفاقيتين، ووصفوهما بأنهما تنتهكان السيادة الوطنية، وتمثلان نوعًا من الاستعمار الجديد، وطلبوا من الحكومة سحبهما.
نواب حركة «نداء تونس» وجهوا إتهامات للغنوشى بالسعى لتمكين أنقرة والدوحة من إحكام قبضتهما على الاقتصاد.. كتلة «الحزب الدستورى الحر» شككت فى أهداف الاتفاقيتين، واعتبرت أنهما «مشبوهتين»، وتزجّان بتونس فى لعبة المحاور والاصطفاف وراء الحلف الإخوانى، وأعلنت توجهها للمحكمة الإدارية للطعن.. الاتحاد التونسي للشغل حذّر من إستغلال الظروف لتمرير مشاريع واتفاقيات خارجية معادية لمصالح تونس، وترهن مستقبلها لصالح اصطفافات وأحلاف أجنبية.. الحكومة إضطرت لسحب الإتفاقيتين، تحت ضغط الرفض الشعبى والبرلمانى.
التأثير السياسى لتركيا وقطر واضح للعيان.. اعتذار تونس عن حضور مؤتمر برلين بحجة تأخر الدعوة، كان هروبًا من إتخاذ موقف علنى مؤيد لتركيا، تجنبًا للوم عربى.. إعادة العلاقات مع سوريا كانت على رأس الالتزامات التي قطعها قيس سعيد على نفسه خلال حملته الانتخابية، من منطلق أهمية الملف للأمن القومى التونسى، والتنسيق بشان الجهاديين التونسيين فى صفوف التنظيمات الإرهابية، ولكن، عندما حاول قيس سعيد جس النبض بشأن سوريا مارس الماضى، بدفاعه عن الرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد الإرهابيين، تعرض لحملة إعلامية ضارية من قناة الجزيرة القطرية، توَّجه توبيخ فيصل القاسم للرئيس التونسى «قبل أن تدافع عن نظام الأسد والقدس، اذهب ودافع عن المسحوقين في تونس، الذين لاتطعمهم لغتك الإنشائية خبزًا».. التحول السياسى للرئيس التونسى تم سريعًا، لكن التفاعلات الداخلية قد تغير ذلك، اذا ما اقترن بإختلال أمنى ناتج عن تساهل الإجراءات عبر الحدود المشتركة مع ليبيا، التى أضحت خاصعة للميليشيات والمرتزقة والتنظيمات الإرهابية.