رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: بارود رمضان يقتل ١٠٠ من الأهالى

محمود خليل
محمود خليل

«تسلية الصيام» من الطقوس المصرية المعتادة فى رمضان، لا يختلف المصريون القدامى عن المحدثين فى الاعتماد على «الفرجة» كأداة لتسلية الصيام، ولا أرى أن من يمارس الفرجة على التليفزيون أو الجلوس أمام شاشة اللاب أو الموبايل للفرجة أو للدردشة يختلف فيما يطلبه عمّا كان يطلبه الأقدمون من التجول فى الشوارع والفرجة على المحال والحوانيت والبشر الذين يسيرون هنا وهناك، وهو طقس التسلية الذى كان يمارسه المصريون أوائل القرن التاسع عشر، ولا تحلو التسلية للمصرى الصائم إلا بعد العصر، حين يفرغ من استهلاك القسم الأكبر من ساعات الصيام فى النوم، ليهرع بعدها إلى الشوارع طلبًا للتسلية، ولم يكن عصر يوم الثلاثاء ١٠ رمضان من عام ١٢٠١ هجرية الذى وافق ٢٦ يونيو من عام ١٧٨٧ عصرًا عاديًا، وافق رمضان أيامها صيفًا حارقًا جفف حلوق المصريين، وكانوا يبحثون عن أى وسيلة لتمضية الوقت وتسلية الصيام إلى أن يؤذن للمغرب، ولم يكن هناك أفضل من التمشية أو الجلوس فى شارع «البندقانيين»، وهو ذلك الشارع الذى يبدأ من نهاية شارع الوراقين وينتهى عند مبدأ شارع الحمزاوى بالأزهر. الفرجة على هذه السوق كانت تشكل متعة عظيمة لأهالى القاهرة حينذاك، فهى تشتمل-كما يقول الجبرتى- على أغلب حوائج الناس، وبها حوانيت العطارين والزياتين والقبانية والصيارفة، وبائعى الكنافة والقطائف، والبطيخ والعبدلاوى، ودكاكين المزينين والقهاوى.
كثيرون ذهبوا يومها للتسلى فى شارع البندقانيين انتظارًا لأذان المغرب، دون أن يدروا أنهم لن يلحقوا بمغرب أو عشاء وأنهم سيلقون حتفهم صائمين، فقد وقعت فى ذلك اليوم حادثة مرعبة راح ضحيتها- كما يقرر الجبرتى- أكثر من ١٠٠ قتيل حرقًا غير من ماتوا ولم يعثر لهم على جثث بسبب دفنهم تحت البيوت المتساقطة أو بسبب تحولهم إلى أشلاء، تضاف إليهم آلاف الإصابات، بدأت الأحداث عندما استقبل تاجر العطارة «أحمد ميلاد» جماعة من التجار يريدون شراء «بارود»، كان التاجر قد اشترى لتوه برميلين معبأين بالبارود من تجار إنجليز، طلب التجار تجربة البارود قبل شرائه، فجربه لهم «ميلاد» فى قطعة حبل، فرضى المشترى بـ«البيعة»، فوضع صاحب البارود الحبل الذى لم يزل مشتعلًا إلى جواره ثم بدأ يزن لهم المطلوب، ومع الإهمال تساقطت حبات من البارود على الحبل ولك أن تتوقع الباقى، انفجار عظيم وقع فى الحانوت وامتد بالطبع إلى الحوانيت والبيوت المجاورة، إلى درجة سماع صوته فى الأزهر والحسين، وأخذت الأجساد تتطاير ومعها البضائع، وطاشت قطع الرصاص والقصدير والنحاس لتصيب من قدر الله نصيبًا للإصابة أو للموت فى هذه المحنة.
تحركت السلطات بعد وصول خبر بالواقعة للتعامل مع الحريق وإخماده، فوصل الأغا والوالى إلى موقع الحادثة وتابعوا عملية قهر النار حتى انقهرت، وفى اليوم التالى أرسل الوالى ٢٠٠ فاعل لنبش الأتربة وإخراج القتلى، وكلفهم بمهمة أخرى تتمثل فى جمع كل ما تصل إليه أيديهم من بضائع أو أموال أو مصاغ داخل الحوانيت أو داخل البيوت، ولم يكتف الفواعلية من مبعوثى الوالى بنبش الدور والمحال التى تهدمت، بل تحركوا إلى الدكاكين والبيوت التى لم تصب بأذى فاقتحموها وسلبوا كل ما فيها. ومن يعترض من التجار ذوى الحيثية كانوا يجيبونه: بضاعتك ومالك عندنا حتى تثبته «أى حتى يثبت أنك صاحبه»، أما عوام المصريين ممن تساءلوا فكانوا يجيبونهم بالنبابيت، قررت السلطات إغلاق حى البندقانيين من الجانبين «شارع الوراقين وسوق الحمزاوى»، وظل الحى مغلقًا مدة من الزمن حتى تم تنظيفه وافتتاحه من جديد، لينعم من نهب بما نهب، ويغرق من كان له قتيل أو جريح فى معمعة أحزانه، ويفضى أكثر من ١٠٠ من الأهالى ممن لقوا حتفهم فى الواقعة إلى رحمة ربهم، بمن فيهم «أحمد ميلاد» الذى تحولت جثته إلى أشلاء بعد أن كتبت للقتلى «شهادة وفاة»!.