رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جولة لـ«الدستور» فى عدد من المشروعات: «أكل العيش مُر»

المشروعات
المشروعات

موقع العمل يبدو حيويًا، الجميع يسارع لاستكمال مشروعات البناء، على الرغم من مخاطر فيروس «كورونا»، على البُعد يبدو أن أحدهم قرر الالتزام بتعليمات السلامة وارتدى قناعًا يجنبه خطر العدوى.. هكذا تبدو الصورة لأول وهلة لكن حين تقترب سوف تكتشف أنه عامل دهان يقف على سلم، ويضع شالًا خفيفًا على فمه وأنفه، اتقاءً لرائحة الدهانات وليس خوفًا من الفيروس.
عامل الدهان هذا هو مثال لمئات وربما آلاف من العمال والصنايعية الذين يقفون على السقالات، حيث تُبنى المشروعات الإنشائية، هم لا يملكون رفاهية العمل من المنزل، وليسوا موظفين يستطيعون الحصول على إجازات مدفوعة الراتب، وغير قادرين على تنفيذ تعليمات وزارة الصحة بالبقاء فى المنازل، لسبب بسيط مثلما جاء على لسان أحدهم «لو قعدنا هنجوع».
«الدستور» رصدت العمل فى أكثر من موقع للبناء، والتقت عمالًا ومهندسين ومقاولين، جميعهم، وحسب طبيعة أعمالهم، مضطرون للنزول مع الساعات الأولى لصباح كل يوم للعمل، يتصافحون ويتبادلون الأحضان، لا يلقون بالًا بإجراءات الوقاية، ربما كان المهندسون أكثر حرصًا، هم والمقاولون الذين يحتكون بأعداد كبيرة من العمال يوميًّا.. كيف تتعامل تلك الطائفة، التى تواصل عملها بانتظام، مع فيروس «كورونا»؟ وبماذا يبررون اضطرارهم إلى العمل؟.. الإجابة على ألسنتهم هنا.

عمال: لو بطلنا مش هنلاقى ناكل.. وسايبنها على الله
فى جلسة سمر مسائية، يجلس سيد أحمد، وهو عامل بناء فى أحد مشروعات القاهرة الجديدة، برفقة عدد من أصدقائه الذين يقترب عددهم من العشرة، يتناولون الشاى ويتبادلون الحديث عن خطر «كورونا»، كل واحد منهم يعرض مخاوفه من هذا الشبح الغائب عن الأعين، لكنهم جميعًا يستجيبون للمثل القائل: «ما باليد حيلة»، فالجميع يبحث عن قوت يومه.
يقول «أحمد»، الذى ينتمى لمحافظة الفيوم، إنه يعمل بمواقع البناء منذ صغر سنه، وقد مرت عليه ألوان مختلفة من الأزمات الطاحنة، لكنه «سايبها على الله»، أما عن الفيروس ومدى معرفته به فيعلق: «بسمع كل يوم عن المرض ده من الأخبار، لكن هعمل إيه أنا شغال يوم بيوم ولو مشتغلتش مش هنلاقى ناكل».
بلغ إصرار العامل مبلغًا لا رجعة فيه، بعد أن أكد أنه فى حال استجاب صاحب العمل إلى دعوات الكف عن البناء، فإنه سوف يبحث عن عمل آخر، فهو أب لأربعة أبناء، ومسئول عن طلبات أمه المريضة، والتوقف يوم واحد يعرض قوت أولاده ودواء أمه للخطر.
وفى موقع للبناء بالقاهرة الجديدة أيضًا، ينقل رجل قوى البنيان، يدعى محمد أبوهيكل، «الطوب والزلط»، من مكان إلى آخر، لا يوجد على يديه، التى أكل عليها الدهر وشرب، قفازين ولا يهتم بوضع الكمامة، أو الابتعاد عن مجاوريه فى العمل، وقاية من العدوى.
يقول «أبوهيكل»، وهو من بنى سويف، إنه كان يعمل لدى إحدى شركات البناء التى قررت أخيرًا غلق أبوابها لحين إشعار آخر بسبب «كورونا»، ملتزمة بالتعليمات التى أشارت إليها وزارة الصحة، لكن، ولأنه لا يمتلك أكثر من قوت يومه، لم يستطع الالتزام وانتظار انحسار الأزمة، أو عودة الشركة، ومن ثم بحث عن موقع آخر.
ويبرر موقفه بأن شأنه فى ذلك شأن جميع العاملين فى هذه المهنة، من أصحاب العمالة اليومية: «لا يمكن لهم أن يتوقفوا عن العمل، فإن اختلفت الأسباب التى قرر المقاولون تعليق العمل لأجلها فهى إما الخوف من عقاب الحكومة والالتزام بالتعليمات، أو رغبة فى انحسار المرض وعدم إصابتهم به، فربما يمتلكون ما يكفيهم حتى تمر الأزمة بسلام، أما نحن فماذا نفعل».
«محدش بيسيب لقمة عيشه».. بهذه الكلمات أنهى الجدل حول إمكانية الالتزام بالبيوت، فـ«كورونا» لن يؤثر على قرارهم فى شىء، ولم تظهر عليهم أى آثار جانبية جراء انتشاره، ليس سوى فرض حظر التجوال الجزئى الذى أجبره على البقاء طوال أيام الأسبوع فى مقر عمله وعدم العودة إلى بيته كما كان يفعل من قبل.
أما عن الدعم المقدم من الحكومة فى صورة ٥٠٠ جنيه للأفراد الذين يعملون فى العمالة اليومية، فيقول: «عرفت إن الحكومة مشكورة بتوزع ٥٠٠ جنيه للعمالة باليومية زى حالاتنا بس محاولتش أجيبها، لأنهم طلبوا إجراءات وأوراق وأنا مش فاضى أعمل كل دا».

مهندسون: الشركات لا يهمها الفيروس.. والوقاية اجتهادات فردية
يتحدث إيهاب إمام، مهندس مدنى، عن معاناته هو وعدد كبير من زملائه، واصفًا رحلته أو رحلتهم جميعًا قائلًا: «تبدأ بالاستيقاظ مبكرًا والتوجه إلى مواقع العمل، بعضنا يذهب للعمل كل أيام الأسبوع، أما أنا فقد حالفنى الحظ وأكتفى بثلاثة أيام فقط من العمل».
يقول «إمام» إن هناك استحالة منطقية تتمثل فى عدم قدرته هو وزملائه على العمل من المنزل، إذ لا بد من النزول إلى المواقع، ومخالطة العمال والزملاء من المهندسين والصنايعية بعد استلام العمل من المقاول.
يعمل المهندس الشاب فى أحد المواقع بالقاهرة الجديدة، من خلال شركة خاصة، ويقول: إن المهندس لا يمتلك رفاهية العمل من المنزل ولا بد من متابعة الأعمال على أرض الواقع، ومقارنتها بالنماذج المطلوبة، وتحديد ما إذا كانت مطابقة للمواصفات أم غير ذلك، مشيرًا إلى أن الحل الأول وسبب الأزمة الرئيسى هو فى الشركات التى ترفض الالتزام بالتعليمات وتستمر فى العمل رغم انتشار المرض.
ويضيف «إمام» أن التزام أصدقائه الذين يعملون فى مجال الهندسة بتعليمات الحكومة من أجل الحد من انتشار «كورونا» متفاوتة، فالبعض، وهو عدد قليل للغاية، آثر غلق مكاتبهم لحين انتهاء الأزمة، أما الغالبية العظمى فيواصلون العمل بصور مختلفة.
ويوضح: «هناك شركات قسمت مهندسيها إلى فريقين، أحدهما مسئول عن متابعة العمل فى النصف الأول من الأسبوع، والآخر يعمل فى الثلاثة أيام المتبقية، وهناك شركات لا تمتلك عددًا كافيًا من المهندسين، وتواصل العمل بكامل قوتها طوال أيام الأسبوع».
ويقول إن «النظافة اجتهادات فردية، وهناك شركات لا تهتم بأمر العاملين رغم استمرارها فى تنفيذ المشاريع، فلا كمامات أو غيرها من أساليب الوقاية توزع على الأفراد، ولا حتى إرشاد الناس بضرورة الابتعاد عن بعضهم بعضًا وترك مسافة فيما بينهم»، مؤكدًا أن ما يحدث من أعمال وقاية مجرد اجتهادات فردية.
وعن الإجراءات التى اتخذتها شركته للحد من الإصابة يقول: «الشركة عندنا عملت تعقيمًا للمكاتب مرة أو مرتين خلال الشهر الماضى، لكنها غير مهتمة بإرشادات الوقاية وإرشادات تعقيم الأيدى والنظافة الشخصية والمسافات الشخصية بين الموظفين».
ومن داخل أحد مواقع البناء على طريق السويس، التقت «الدستور» المهندس الشاب «بسام عبده»، الذى يؤكد هو الآخر ضرورة الوجود داخل مواقع العمل لإتمام عملية البناء، لأن مهنته «الهندسة المعمارية» يستحيل معها العمل من المنزل.
ويقول: «مسألة الوقاية من كورونا معتمدة على الاجتهادات الفردية لكل شخص، فاللى بيلبس كمامة أو بيستخدم مطهر بيعمل كدا من نفسه لأن الشركات مش بتعمل حاجة».
ويشير المهندس الشاب إلى وجود مشكلة أكبر من مجرد التعقيم وهى تحرك جميع العاملين والمهندسين بموقع العمل فى وقت واحد، وبأعداد كبيرة للغاية، سواء مع الساعات الأولى لليوم واستلام العمل، أو عند مغادرتهم الموقع: «لا ترتيبات ولا خروج بالتدريج، الأمر الذى يهدد بإصابة أعداد كبيرة بالمرض إذا صادف أن كان أحدهم مصابًا».
ويؤكد: «كورونا لم يغير شيئًا فى طريقة وصولنا من وإلى مواقع العمل.. بنركب مينى باصات توصل المهندسين لأقرب نقطة للبيت ودا لأن الشركة نظامها كدا من زمان»، مضيفًا أن شركته، وبعض الشركات الأخرى، لم تغير حتى من نمط نقل العاملين من مهندسين وعمال، حتى تخفف من خطر الإصابة، مع الوضع فى الاعتبار أن تلك الوسيلة، فى الأساس ودون الأزمة، غير مريحة.
ويشير إلى وجود شركات تهتم بتوصيل العمال والمهندسين عبر سيارات مجهزة، غير تلك التى تترك المهندسين للوصول إلى المواقع من خلال المواصلات أو سيارتهم الخاصة.
ويؤكد المهندس الشاب أنه وجميع المهندسين الذين يعملون فى الموقع الخاص به على طريق السويس ملتزمون بتعليمات الوقاية من استخدام المطهرات وارتداء القفازات والكمامة، أما العمال والمشرفون فيتعاملون مع الأمر كما لو أنه لا توجد فى العالم كارثة «كورونا».

مقاول: لا يمكن أن نتوقف بسبب مواعيد التسليم المحددة مسبقًا.. وآخر: مقدرش أحمى الناس من مرض مش بيتشاف
المقاولون هم المحرك الرئيسى لعمليات البناء، فهم يمثلون همزة الوصل ما بين المهندسين من جهة والعمال والصنايعية من جهة أخرى، لذلك هم الأكثر احتكاكًا بالآخرين، فالتعاملات اليومية للشخص الواحد منهم تصل إلى المئات، وهو ما يهدد بكارثة إذا ما أُصيب أحدهم بفيروس كورونا.
محمد موسى، أحد المقاولين فى موقع عمل بالقاهرة الجديدة، يشرف على العشرات من العمال فى الموقع، يهتم بتنفيذ الأعمال المطلوبة على أكمل وجه، ويلبى احتياجات العمال- يقول إن العمل يبدأ مبكرًا فى الثامنة صباحًا، لذلك يحرص على أن يكون العمال جميعهم مستعدين فى الوقت المحدد للاستفادة القصوى من الوقت.
ويضيف: أنه يتابع أخبار «كورونا»، سواء من القنوات الإخبارية على شاشات التلفاز، أو من على مواقع التواصل الاجتماعى، لكنه يرى أن العمل يجب أن يستمر حتى لا تنقطع أرزاق العمال والصنايعية العاملين فى مواقع البناء.
وحسب «موسى» فإن الشركات طالبت المقاولين بالالتزام فى تسليم الأعمال، وهو ما تسبب فى التزام المقاولين والعمال بأعمالهم، على الرغم من انتشار الفيروس: «البناء فى مصر انتعش الفترة الأخيرة عشان المشروعات الجديدة، وكلنا فرحنا إننا رجعنا نشتغل كويس زى زمان، ومش هنفرط فى الشغل دا بسهولة». ماهر الألفى، مقاول أنفار، اعتاد جمع العمال من أماكن مختلفة، وحريص على أن يكونوا أكفاء حتى يستمر فى العمل مع الشركات الكبرى، لذلك يمتلك قاعدة بيانات كبيرة من العمال والصنايعية، ويؤكد أنه برغم انتشار الفيروس ف«محدش فيهم قالى عايز أقعد فى البيت».
«دول عمال غلابة منقدرش نقولهم اقعدوا فى البيت».. بهذه الكلمات عبّر المقاول عن عدم إجبار العمال على الجلوس فى بيوتهم والتوقف عن العمل، مشيرًا إلى أنه فى حال قام بذلك فسوف تستعين الشركة بمقاول آخر، مضيفًا: «لو توقفت عن العمل فمن سيضمن بعد مرور الأزمة عودتى إلى الشغل مرة أخرى، فالمقاول فى هذه المهنة مربوط بسمعته من الالتزام والجدية، ثم إن العمال أنفسهم يرفضون، دى لقمة عيشهم».
ويشير إلى مهامه فى المهنة، فهو مسئول عن حماية العمال، وتجنيبهم الإصابات الجسدية، الكل هنا يعمل تحت إشرافه وسيطرته، يقول: «أنا لازم أهتم إنهم يلبسوا خوذة أو ميشتغلوش فى مكان عالى من غير حبل حماية، لكن مش هقدر أحميهم من مرض مش بيتشاف».