رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد صالح البحر: إنسان ما بعد كورونا لن يسير وحيدا أبدا

محمد صالح البحر
محمد صالح البحر

من المؤكد أن العالم ما بعد وباء كورونا لن يعود كما كان قبله، وربما سيأتي اليوم الذي يؤرخ فيه بكورونا، وربما قيل الوقائع الفلانية حدثت قبل أو بعد الكورونا، وبعيدا عن روايات أو عالم الـ"ديستوبيا" استطلعت "الدستور" آراء العديد من الكتاب والمثقفين حول هذا الفيروس القاتل، وكيف يتخيل الكتاب شكل العالم ما بعد الكورونا؟ وما التأثير الذي سيتركه على الأدب، وعليهم شخصيا، وهل سيفرض هذا الوباء نفسه على الكتابة فيما بعد، أو حتى تداعياته والتأثير الذي تركه على العالم كما نعرفه؟ كل هذه الأسئلة وغيرها في محاولة لاستشراف عالم الغد.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب "محمد صالح البحر": العالم يهتز، لا أحد يمتلك عينا ترى، أو عقلا يعي، يستطيع أن ينكر ذاك، ليس فقط لأن الاهتزاز الذي أحدثه وباء كورونا قوى وصاخب ومدمر، لا أمل قريب في الخلاص منه، ولا تصور حازم في حساب حجم الخراب الذي سينتج عنه، بل لأنه أول ظاهرة عالمية بحق، تطوي العالم كله في قبضتها القوية بلا رحمة، وتأتي كاختبار حقيقي وكاشف لعورة الجميع بلا تفرقة.

تابع موضحا: بعد انهيار القطب الاشتراكي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، انفردت أمريكا ـ كرأس العالم الرأسمالي وذراعه القوية ـ بحكم العالم، ولم يكن هذا سياقا طبيعيا لخط سير الحياة في العالم، هذا الخط الذي يخبرنا التاريخ دوما بأنه ظل متداولا بين قطبين كبيرين وقويين ومتعارضين، لكنهما كفيلان بتحقيق الإطار العام لفكرة العدل في العالم، وتوفير الأمن اللازم للكيانات الصغرى لتحقيق الوجود، وهو الأمر الذي ضمن على الدوام تحقيق التوازن الطبيعي لاستمرار الحياة، وتوغلها في الزمن، وفي مرور ثلاثين عاما من الهيمنة الأمريكية المتوحشة بدا الأمر عسيرا، ولم تكن سهلة فكرة التخلص من هذا السياق غير الطبيعي بغير حرب عالمية مدمرة.

راح الجميع يتحاشى فكرة وقوعها بسبب عدم تكافؤ القوة العسكرية مع الكيان الأمريكي من جهة، ومن جهة أخرى قدرة الكيان الأمريكي الدبلوماسية المتسلحة بقدرتها العسكرية على النفاذ إلى الجميع، وبسط سيطرتها عليه بأي شكل من الأشكال، وهكذا بدا العالم مستقرا في العقود الثلاثة الأخيرة تحت عباءة العولمة الأمريكية الغاشمة، لكنه استقرار البركان المترصد لغفلة الأسد أو عجزه، وهدوئه الذي يغلي في الباطن الدفين بحمم لا حجم لقدرتها على التدمير.

وأضاف: من هنا تأتي أهمية أزمة وباء الكورونا، في قدرتها على امتلاك إرادة التغيير الذي طال انتظاره، وسواء كانت الأزمة مفتعلة كحرب بيولوجية فقد اللاعبون القدرة على السيطرة عليها، أو تأتي كنتيجة لسلوكيات بشرية خاطئة صحيا واجتماعيا بسبب تسطيح الوعي الذي مارسته العولمة الرأسمالية، أو حتى كعقاب سماوي على خطايا البشر، بعدما قتلوا أرواحهم وتهافتوا إلى إشباع غرائزهم الدونية ـ فإن الأمر قد نفد من يد الجميع، وأحكم الفيروس قبضته القوية الغاشمة على العالم، لكنه في ذات الوقت لفت الانتباه إلى أن حقيقة القوة ليست عسكرية فقط، بل أيضا طبية واجتماعية وأخلاقية وثقافية، والأهم أنها اقتصادية أيضا، القوة العسكرية الآن تتعطل، وفي مرور الوقت ـ إذا استمرت الأزمة أو تفاقمت ـ سيفقد العالم قدرته الاقتصادية، وسيخرج كل منْ يبقى منه فقيرا وضعيفا ومحتاجا، وبالتالي إنسانا بالقدر الذي يؤهله إلى تغيير مساره في الحياة إلى سياقه السليم، بالقدر الذي ستمنحه، أو توفره، القوى المالكة لإرادة التغيير التي ستحدث من بعد.

اختتم: أعتقد أن ثمة شعورا إنسانيا عظيما سيولد في عالم ما بعد الكورونا، سيوفر للإنسان قدرا معقولا من الإيمان بأنه كائن اجتماعي، لا يستطيع أن يحيا بمفرده مهما بلغت إمكانياته الفردية قوة أو علما أو مالا، وأعتقد أن هذا الإيمان سيصيب الدول كما سيصيب الأفراد، وأن ثمة ظلالا قوية لهذا التغيير ستصيب الأدب الذي سيعبر عنه، بحيث يصير أدبا إنسانيا يُعلي من قدر القيم الجماعية على حساب القيم الفردية، لن ينظر إلى الوراء مستدعيا التاريخ ليصب عظاته القديمة الباهتة على الواقع، ولن يلجأ إلى الأسطورة ليغترف من معين غرائبيتها أو قدرتها على صناعة السحر، فعالم ما بعد الكورونا سيكون قد تجاوز كل ذلك، وإنسان ما بعد الكورونا سيُشّمِّر عن ساعديه لخلق تاريخه وأسطورته الجديدين، باحثا عن رؤى جديدة للهروب من الاغتراب العظيم الذي ستخلفه المآسي التي حدثت، كما أعتقد أن الأدب آنذاك لن يكون يوتوبيا حالما، ولا ديستوبيا متشائما وهو يحاول إعادة بناء العالم من جديد، فإنسان ما بعد الكورونا لن يسير وحيدا أبدا، وسيظل يلتفت من حوله على طول الطريق القادمة باحثا عن رؤى جديدة ومغايرة، بعدما سقطت عن كاهله كل الرؤى القديمة، وامتلك عينين جديدين، ووعيا متخما بالألم وسعادة النجاة.
هناك الكثير من الذين امتلك اليأس أرواحهم نتيجة قبح العالم الذي نعرفه الآن، لا يؤمنون بالتغيير، لكنه ـ أيا كانت صورته أو حجمه ـ قادم بلا محالة.