صيّاد الكلمات.. زوجة فتحي غانم تتحدث عنه لأول مرة
هذا الحوار يدور عن شخصية تكوينها حاصل جمع مواهب متعددة، فهو رجل عاش حياته كرقم صعب فى تاريخ عالمى الصحافة والأدب، حالة تحتار أن تضع لها تعريفًا معينًا أو توصيفًا محددًا، بدأ رحلته مع صاحبة الجلالة كصحفى عادى يبحث عن نفسه، وانتهت رحلته معها وهو الأديب البارع والكاتب البديع، الذى أحدث انقلابًا فى أبجديات مهنة بأكملها، بعدما مزجت كلماته بين الأسلوبين الروائى والصحفى فى ظاهرة كانت فريدة فى وقتها، وما زالت.
عن الرجل الذى لم يفقد ظله أو بالمعنى الصحيح ضميره، الكاتب فتحى غانم، يدور حوار «الدستور» مع زوجته الدكتورة زبيدة عطا، التى تقدم قطوفًا جديدة لقلم لم ينصفه أحد إلا قليلًا، كاشفة عن لحظات صعوده وصدامه ونجاحاته وطموحاته، فى حوارها الأول وتقريبًا الأخير مع الصحافة.
كان يقول عن نفسه: «أنا أديب حرفتى الصحافة».. ورفض العمل كمخبر صحفى
تبدأ الدكتورة زبيدة عطا حديثها من عند نقطة الالتقاء التى جمعت بينها وبين فتحى غانم: «أستطيع أن أقول إننى دخلت قلبه من اهتمامات عقله، فاللقاء الأول بيننا حدث على ضفاف النهر فى دولة العراق خلال أحد المؤتمرات الأدبية هناك، وقتها جمعنا التعارف، ثم سرعان ما تطورت العلاقة إلى الصداقة، تبادلنا بعدها اللقاءات وتجاذبنا أطراف الحديث سويًا فى مناسبات شتى ومواقف مختلفة، لأصاب من بعد ذلك بهوى متابعة مقالاته والاستمتاع بتحليلاته فى القضايا الفكرية والمواقف السياسية التى تُثار وتشتعل فى الداخل هنا أو الخارج هناك».
وتُضيف: «خلال تلك الفترة كنت أعمل أستاذة فى كلية الآداب جامعة المنيا، فقمت بإعداد سلسلة ندوات تنويرية للطلاب، تقوم على استضافة رموز الفكر وأعلام الثقافة ونجوم الصحافة فى مصر، أمثال أسامة أنور عكاشة وكامل الزهيرى، وغيرهما كثيرون، وحدث أنه فى إحدى المرات وجهت الدعوة لـفتحى لأجل الحضور، فلبى طلبى»،
وبمجرد انتهاء الندوة جلس معى وأبدى إعجابه الشديد بشخصى، وفاتحنى فى أمر الارتباط منه، فأبديت موافقتى، ليتم الزواج بعدها بفترة وجيزة، ولأبدأ حينها فى اكتشاف الجذور، التى نبتت ونمت من خلالها شخصية هذا الرجل العظيم.
كان «فتحى» صاحب تكوين إنسانى وثقافى خاص، فلم يكن شخصية اجتماعية، لا يهوى الخروج أو الظهور، قليل الاختلاط بالبشر، فدائرة أصدقائه كانت محدودة غاية، لا تتعدى بعض الأشخاص، أبرزهم مثلا محمود أمين العالم وأحمد حمروش وآدم حنين وصلاح حافظ.
كان «فتحى» ابنًا وحيدًا على ٤ بنات لأسرة مات عائلها مبكرًا، بالإضافة إلى أخِ أصغر مات فى حادثة؛ فتكفلت الأم بتربية ورعاية أبنائها، يعاونها هو فى ذلك قدر استطاعته، وبالمناسبة ملامح تلك القصة هى التى ألهمت إحسان عبدالقدوس لاحقًا فكرة كتابة روايته «لا تطفئ الشمس»، فالحبكة التى قدمها تُشبه فى أجزاء كثيرة منها تفاصيل الحياة فى بيت «غانم».
وتُضيف: «تأثير والدته على شخصيته كان طاغيًا ومؤثرًا بدرجة كبيرة، بعدما لعبت الدور المحورى والحيوى الأهم فى حياته؛ وإليها يعود الفضل فى اقتناعه بدور المرأة فى المجتمع والحياة، ودفاعه الكبير عنها فى كتابته ومؤلفاته، فمثلًا عندما كنت أذهب إليه أطلب رأيه فى قضية معينة تخصنى وحدى، أجده يردد: (هقولك على رأيى.. لكن اعملى اللى إنت مقتنعة بيه فى النهاية)».
بدايات ارتباطه بعالمى الفكر والصحافة نشأت عقب تخرجه فى كلية الحقوق، حيث تم تعيينه مفتش تحقيقات فى وزارة التربية والتعليم، بصحبة الكاتب أحمد بهاء الدين، حيث لم يكن لفكرة العمل الصحفى حضور على طاولة أى منهما خلال تلك المرحلة.
وفى لحظة ما حدث الانجذاب بينه وبين صاحبة الجلالة؛ وذلك عندما ذهب أحد ساكنى قرية «القرنة» لتقديم شكوى فى الدكتور حسن فتحى، صاحب كتاب «عمارة الفقراء»، فألهمه آنذاك كتابة روايته «الجبل»، التى حققت نجاحًا مدويًا وتوزيعًا باهرًا فور صدورها. بعدها اتجه «فتحى» طارقًا أبواب مؤسسة ««روزاليوسف»» للعمل بها، وهناك استقبلته السيدة «روزا» أحسن استقبال، ودائمًا ما كان يردد أن تلك المرأة الفريدة منحته حنانًا وحبًا ودعمًا وكأنه ابن لها، فأنزلها منزلة أمه الثانية، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلته مع صاحبة الجلالة فى الانطلاق نحو آفاق أوسع وأرحب.
هناك تحدٍ كبير واجهه فى بدايات عمله الصحفى، فأن تحجز لقلمك مكانة خاصة وسط العمالقة الذين كانت تزخر بهم الصحافة المصرية آنذاك بشكل عام ومؤسسة «روزا» بشكل خاص، أمثال الأخوين مصطفى وعلى أمين وإحسان عبدالقدوس ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، فهى مغامرة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لذلك فقد لجأ إلى صناعة نفسه بنفسه.
فكان حريصًا على قراءة كل الكتب والمؤلفات التى تصدر عن المطبعة العربية، وكان متابعًا بدقة وراصدًا كل الأحداث، لذلك استطاع صناعة بصمة خاصة طبعها على عمله الصحفى، فقد نجح فى مزج الأسلوب الروائى بالكتابة الصحفية، فهو كان يقول عن نفسه: «أنا أديب حرفتى الصحافة»، فالأدب هو الفن، لذا فهو كان دائم الرفض فكرة العمل محررًا أو مخبرًا صحفيًا، وظل على تلك الحالة طيلة حياته، وجدته دائمًا قارئًا ممتازًَا ومحللًا سياسيًا بارعًا، وفى مراحل لاحقة ومتأخرة من حياته، عندما احتل التليفزيون مكانته داخل المجتمع وأصبح منافسًا للصحافة، وجدته يتابع بشغف كبير كل الفضائيات الإخبارية الكبرى لمعرفة ما يحدث فى جميع أنحاء العالم.
لم يبق من السيرة الإنسانية لصاحب رائعة «زينب والعرش» غير الحديث عن نجله «أحمد» وعنه تقول: «فتحى كان شديد الديمقراطية مع ابنه، فلم يرغمه على فعل شىء لا يهواه، فبالرغم من دراسته فى الجامعة الأمريكية، فإنه عندما اختار العمل كمخرج، لم يجد أدنى معارضة من والده، فقد كان بينهما حبل موصول من الثقة المتبادلة؛ لذا منحه حرية تقرير مصيره دون تدخل».
السادات انتقم منه هو وصلاح حافظ بعد انتفاضة 1977 وخاطبهما: «اقعدوا فى بيوتكم.. ماتدخلوش روزاليوسف»
شهادة الميلاد الحقيقية لاسم الصحفى فتحى غانم خرجت من ميدان المنشية بمحافظة الإسكندرية، حيث المكان الذى شهد محاولة اغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى ٢٦ أكتوبر عام ١٩٥٤، وقتها كان يعمل فى جريدة «أخبار اليوم»، فتم تكليفه بتحقيق صحفى عن الجانى، وبالفعل لم يخب الرجاء فيما طُلب منه.
نجح «فتحى» فى تقديم صورة درامية وقصة صحفية محكمة التفاصيل عن منفذ العملية، أشعلت نيران الغضب لدى «عبدالناصر»، لينفجر بالكلام فى وجه على أمين قائلًا: «إزاى الكلام ده يتنشر؟»، حيث اعتبر الكلام المكتوب ينصف المتهم ولا يصب فى صالحه، متسائلًا عن الصحفى الذى صاغ هذا الموضوع.. من يكون؟.
عندها تدخل على أمين شارحًا للزعيم الراحل ومدافعًا عن «فتحى»، مبينًا لـه أن التحقيق يناصره ولا يهاجمه، مؤكدًا له فى الوقت ذاته أن هذا الصحفى من محبيه ومؤيديه، وهو ما اقتنع به الرئيس فى النهاية.
تستطيع أن تقول إنه منذ تلك اللحظة دخلت كتابات «فتحى» حيز اهتمامات «عبدالناصر»، قتم تصعيده لاحقًا لرئاسة مجلس إدارة جريدة «الجمهورية» وهو فى أوائل الثلاثينيات من عمره، وتوالت وتنوعت بعدها المناصب التى تولاها، وبالرغم من ذلك لم يجمع اللقاء بينهما إلا مناسبتين فقط لا ثالث لهما.
فى عام ١٩٧٧ حدثت واحدة من أهم لقطات التراجيديا فى حياة صاحب «تلك الأيام»، وذلك عندما سأله «السادات» هو وصديقه صلاح حافظ: «اللى حصل فى يناير.. ده يبقى إيه؟»، فجاءت الإجابة «انتفاضة يا ريس»، ليقرر الانتقام منهما بطريقته الخاصة، حيث قال لهما «اتفضلوا اقعدوا فى بيوتكم.. وما تدخلوش «روزاليوسف» تانى».
تقول «زبيدة»: «بعد هذا اللقاء تم وقف راتبيهما، حتى المتعلقات الخاصة بكل منهما تم منعهما من الحصول عليها، ورفضت كل الصحف فى مصر استقباله للكتابة على صفحاتها، لكنه رفض التراجع عن موقفه واستعصم بالجلوس فى منزله».
انفراجة العودة حينها جاءت من إحدى شركات الإنتاج، عندما عرضت عليه تحويل روايته «زينب والعرش» إلى مسلسل تليفزيونى، فوافق على الفور، لكنه اشترط أن يشترك فى كتابة السيناريو معه صلاح حافظ، فكتب كل واحد منهما حلقة، ليخرج النص الدرامى فى النهاية محكم التفاصيل، وصار هذا العمل إحدى أهم أيقونات وعلامات الدراما المصرية فى تاريخها. عندما كنا نجلس سويًا دائمًا ما أجده يجدد فخره بأنه أول من كتب عن الصراع داخل عالم صاحبة الجلالة، ومع ذلك وفى أوقات كثيرة كان يُبدى رغبته فى التفرغ لممارسة الأدب والاستمتاع بكتابة الرواية والقصة، لكن لم ينجح فى تحقيق ذلك باعتبار أن الصحافة هى مصدر رزقه، التى يجنى منها الأموال التى تعينه على الحياة.
حلمى النمنم وعادل حمودة كانا الأقرب إليه وقلمه العظيم لم ينصفه أحد بما يستحق حتى الآن
لم يتوقف صاحب «بنت من شبرا» عن الكتابة والغوص فى صفحات عالمى الأدب والصحافة حتى اللحظات الأخيرة من حياته، فمثلما أجاد فى كتابة المقال، برع على الجانب الآخر فى صياغة الرواية بتفاصيلها، فكتابته كانت سابقة لعصرها.
تستأنف «زبيدة» عطا حكيها من جديد قائلة: «غزارة الإنتاج الأدبى لفتحى غانم، وتنوع أعماله ونجاحها فى المزج بين التاريخ ومحاكاة الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، كانت نابعة من شغفه ومحبته للأدب».
فذات يوم كنا فى رحلة إلى مدينة «مونت كارلو»، وفجأة وجدته يحدثنى باستفاضة عن إحدى السيدات، وكيف خدعها زوجها وتحصل منها على الأموال ليتزوج بغيرها؛ فقاطعته متساءلة: «إنت بتألف رواية جديدة.. فابتسم وقال: نعم»، وبالفعل تلك المحادثة كانت النواة التى خرجت من رحمها روايته «ست الحسن والجمال»، التى كانت ترصد قطوفًا من سيرة السيدة السعودية سميرة خاشقجى.
فى أحيانٍ كثيرة كان يسألنى عن رأيى فى أعماله، فأخبره بأن رواية «الأفيال» هى أحب أعماله، التى أواظب على قراءتها، ففى تلك الرواية قدّم رؤية مستقبلية للصراع السياسى فى مصر، حيث تنبأ بأن تقوم التيارات الإسلامية باغتيال رأس الدولة، وهو ما حدث بالضبط لاحقًا فى مشهد نهاية الرئيس السادات، لكن تبقى روايته «الغبى» أحب أعماله لقلبه.
وأذكر أنه عندما تم تحويل «الأفيال» إلى مسلسل لم يكن معجبًا بالصورة التى خرج عليها العمل، فقد أبدى اعتراضه على أداء الفنان محمود ياسين دور البطولة بمفرده بعدما ظهر بشخصية الأب والابن والحفيد، وكأن رأيه مستندًا إلى أن تنوع الشخصيات يعطى العمل الدرامى قوة وثراء.
فى روايته «الرجل الذى فقد ظله» اتفق الجميع على أن الشخص، الذى قصده فتحى غانم بكلماته كان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.. لذا لم أدع فرصة مقابلة زوجته زبيدة عطا تمر دون أن أتقصى منها تلك الحقيقة.. فماذا قالت؟
تُجيب: «فى كل رواياته دائمًا ما كانت تتناثر الأقاويل بأن كلماته تقصد شخصًا معينًا، فمثلًا فى روايته (زينب والعرش) قال الأستاذ الكبير مصطفى أمين إنه المقصود بشخصية (عبدالهادى)، وتلك واقعة تكررت فى أكثر من مناسبة».
وبالفعل عندما صدرت «الرجل الذى فقد ظله»، اعتبر «هيكل» نفسه الشخص الذى تدور حوله القصة، فاستعان بالكاتب الكبير وقتها محمد التابعى لتقصى تلك الحقيقة، وبالفعل هاتف «التابعى» «غانم» قائلًا: «محمد بيقول إنك كاتب عننا رواية، فأجابه بالنفى مكتفيًا بقوله: (دا خيال مش أكتر)».
لكنه مثلًا فى روايته «حكاية تو» كان حريصًا على أن يقدم من خلالها سيرة المناضل شهدى عطية، وقد أعلن عن ذلك هو فيما بعد.
بالنظر إلى الإرث العظيم الذى خلفه من ورائه الأديب والروائى الكبير فتحى غانم.. هل نال الرجل الجزاء الأوفى من التقدير الذى يليق بقلمه.. المؤكد أن الدكتورة «زبيدة» هى أفضل من ترد على هذا السؤال؟
تقول: «لا أملك إجابة حاسمة عن هذا السؤال، أعتقد أن قلمه لم ينصفه أحد بما يستحق، وبالمناسبة هذا ليس رأيى الشخصى، إنما هو رأى كثير من الكتّاب، لأنه باستثناء اللافتة التى قامت بها الهيئة العامة للكتاب عندما قامت بإصدار مجموعة أعماله كاملة عقب رحيله، لم تكرمه المؤسسات، التى رأس مجالس إداراتها وعمل فيها بما يليق ويستحق».
لكن على فترات دائمًا ما يأتى التكريم من كتابات الأساتذة الكبار عنه، فمنذ فترة قريبة سطرت الكاتبة القديرة سناء البيسى واحدة من أجمل المقالات، التى كُتبت فى حقه، وكذلك الحال أيضًا مع وزير الثقافة الأسبق حلمى النمنم، وبالمناسبة هو كان من أقرب الصحفيين إليه، لا ينازعه تلك المكانة إلا الكاتب عادل حمودة، حيث دائمًا ما كان يقول «فتحى» عنه إنه «صحفى شاطر ولديه موهبة».
اختتمت زبيدة عطا حديثها قائلة: «فتحى غانم كان إنسانًا شديد النبل، بدرجة نادرًا ما تتوافر فى أحد غيره، ففى كل الخصومات الفكرية التى خاضها كان يرفض دائمًا الخوض فى الحياة الشخصية للمختلف معهم، بالإضافة إلى ذلك فهو كان لديه اعتزاز كبير بنفسه، فعندما أُصيب بالسرطان فى أُخريات مراحل حياته حاول عدد من الصحفيين مقابلته لكنه رفض حتى لا يراه أحد وهو فى نقطة الضعف تلك».
فى قصته مع صاحبة الجلالة عاش بقلم لم يفقد ضميره أبدًا، ولم يتأثر بأى ضغوطات تعرض لها، لدرجة أنه فى إحدى الفترات تم تعيين سكرتارية خاصة له لمراقبة كل كلمة يكتبها وكل مكالمة يقوم بها، لكنه رفض استمرار تلك الأوضاع فتم إبعادهم جميعًا عن مكتبه.