رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هُم على القمر.. وشعوبهم على الأرض


أخطر المفارقات التى كشفت عنها احتجاجات الغضب الشعبى، سواءً فى العراق أو لبنان أو الجزائر، الفجوة العميقة بين «تردد» موجات خطاب الشارع فى مقابل ردود الفعل الصادرة عن حكوماتها، فقد كشفت عن واقع أن هذه الحكومات ما زالت أسيرة خطاب التهدئة الشكلية، وكأنها على القمر، بينما شعوبها على الأرض. كشف الغضب الشعبى عن عورات المساحة الشاسعة بين وعود «المسكّنات» من جهة، مقابل طبيعة الغضب من جهة أخرى، وهو ما أوصل الحكومات إلى طريق مسدود بعد تراجع فرص التفاوض، تحديدًا فى العراق، مع ازدياد الهوة التى أبعدت الحكومات عن الفهم الحقيقى لأبعاد انتفاض شعوبها، بالتالى تقديم الحلول التى ترتقى إلى حجم الحدث.
قوة ضغط الانفجار الشعبى بالتأكيد أربكت ميزان قوى داخلية أو إقليمية على السواء، على نحو كان يصعب تصوره قبل شهر واحد فقط، رغم هذا ما زالت معالجات النخب السياسية عاجزة عن استقبال الرسائل والمهام التى وضعها المحتجون، كهدف يتمثل فى تغيير الأنظمة السياسية بأكملها أو المنظومة التى قامت عليها، وليس فقط عملية خداع قائمة على تغيير وجوه. تمسُّك الحكومات بلعبة «الثلاث ورقات»، عبر التلاعب بذات الوجوه المطبوعة على أوراق «الكوتشينة» السياسية، لم يقنع المحتجين كضمان لتلبية مطالبهم التى لم تعد تكتفى باستقالة الحكومات فقط، إنما بإقامة نظام سياسى قائم على السيادة والمواطنة لا تُحدد ملامحه سلطة دينية أو طائفية ضاقت بها الشعوب، وحملتها مسئولية كل الآفات التى تعانى منها. بعد أن أسقط الغضب الشعبى نظام البشير فى السودان، ودفع رئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريرى إلى الاستقالة، فما زال يمثل تحديًا للحكومة فى العراق، بعد أن دفعت نفسها نحو طريق مسدود حين تجاوزت الخط الأحمر المتمثل فى إراقة الدماء، ما أدى منطقيًا إلى رفع سقف المطالب وتلاشى فرص التفاوض، فى مقابل عجز حكومتى العراق ولبنان عن التملص من الجذور الفاسدة التى قامت عليها، منذ عقود، أنظمة سياسية سادها عدم استقلالية القرارين السياسى والأمنى، ما عزز من تفاقم ملفات الفساد، كما هو الحال من سيطرة المحاصصة الطائفية فى العراق أو الهيمنة الإيرانية فى لبنان، عبر تغذية حزب الله ليصبح قوة سياسية نافذة، إثر دخوله فى تحالفات مع قوى مسيحية وشيعية بعد الانسحاب الإسرائيلى العشوائى من جنوب لبنان.
الشعوب العربية فى لبنان والعراق، وفى السودان والجزائر، التى خرجت فى إعلان عام يرفض الواقع الحالى بكل قواعده المتمثلة فى النخب السياسية الحاكمة، مطالبًا بتغيير جذرى فى النظام السياسى- ما زالت تقابل بردود فعل رسمية أسيرة خطاب تقليدى يتمسك بالصيغ التى تريد هذه الحكومات إقناع نفسها بها بعيدًا تمامًا عن حقيقة ما يجرى على أرض الواقع.
اختارت الحكومات الاحتماء داخل وهم معالجة أزمات واقع اليوم بنفس قواعد وقوانين الماضى، رغم وجود نقاط تشابه واختلاف بين أحداث لبنان والعراق، كلٌ وفق خصوصيته السياسية والاجتماعية، يجمع بينهما تراكم آفات تقديم الهوية الطائفية على الهوية الوطنية. الفجوة الكبيرة هى ذاتها التى دفعت الحكومة العراقية إلى الرهان على عامل الزمن فى إضعاف وتفتيت المظاهرات، لكن التعويل على هذا العامل أتى بنتائج عكسية كارثية منها:
أولًا: امتداد الاحتجاجات إلى مناطق اقتصادية حيوية كالموانئ وحقول النفط، ما يهدد إمدادات البترول العراقى إلى الأسواق العالمية، بالتالى ستمتد التداعيات السلبية من الاقتصاد العراقى إلى الاقتصاد العالمى مع ارتفاع أسعار النفط.
ثانيًا: ازدياد مظاهر التخريب بين المتظاهرين كرد فعل طبيعى تجاه وحشية القمع وإراقة الدماء، وهو ما ظهر فى مشاهد حرق السفارة الإيرانية ومبانى المؤسسات الحكومية ومنازل كبار المسئولين.
مجريات الوضع فى العراق اتجهت نحو منحى أكثر خطورة مقارنة بلبنان، بعدما عمدت الميليشيات الإيرانية فى قمع الاحتجاجات إلى إراقة دماء المتظاهرين السلميين، وارتفاع عدد القتلى يوميًا، وهو ما يعنى وفق قواعد الاحتجاجات ألا عودة إلى الخلف بعد هذا النزيف. فالمتظاهرون، وفق شهادات أتيح لى الاستماع لها داخل ساحة التحرير، خلال وجودى فى زيارة إلى بغداد مؤخرًا- لا يملكون شيئًا يخسرونه، هم شباب لم يقرأ يومًا كتاب «فى سبيل البعث» لميشيل عفلق ولا كتاب «اقتصادنا» لمحمد باقر الصدر، بل قرأوا معاناتهم اليومية والامتهان الذى تتعرض له آدميتهم، فى مقابل تمسك أحمق من وزير الخارجية اللبنانى، جبران باسيل، بالبقاء فى الحكومة كشرط للموافقة على إعادة تكليف سعد الحريرى بتشكيل وزارة جديدة!، وخطاب رئيس وزراء العراق عن سلبيات استقالة الحكومة، وتحولها إلى حكومة تصريف أعمال، مصرًا على إبقاء الحال على ما هو عليه، مجرد مثال واحد ضمن سلسلة نماذج أخرى عن حجم التغييب السياسى المسيطر على النخبة السياسية فى هذه الدول وانفصالها عن وافع مطالب شعوبها، بعد أن أوصلت سياساتها العاجزة المشهد إلى قمة مظاهر التناقض، حين ضمت أعلى نسبة بين المحتجين من الشيعة فى العراق، وعدد كبير منهم فى لبنان، من المطالبين بإسقاط أنظمة خضعت لسيطرة المرجعية الدينية فى إيران، فى حين أن من يحمى الأنظمة من السقوط هم أيضًا ميليشيات شيعية تدين بالولاء لإيران.
ملامح الصورة ما زالت لم تكتمل بعد بين رهانين، أحدهما من النظام وقدرته على إجهاض المظاهرات عبر وعود خطابية تطويق أمنى، والآخر من المحتجين وإصرارهم على تغيير جذرى مكتفين بالعزيمة والإصرار لكسر سطوة الأطراف الإقليمية، ونفوذ المصالح الاقتصادية التى رسخت عبر عقود داخل المؤسسات شبكة فساد لم تعد تحتملها أعصاب هذه الشعوب.