رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"المُغيثة".. سجل حي لإغاثات مريم العذراء لمحبيها وطالبيها

جريدة الدستور

"العذراء مريم"، هى الحدث الإعجازى فى تاريخ البشرية، التى ظهرت فيها قوة الله الخالق وقدرته على عمل المعجزة، وهى صانعة المعجزات فى كل زمان ومكان، تلك السيدة التى كشف الواقع المصرى قٌدسيتها عند المسلمين مثلما هى عند المسيحين، وصارت تشفع للملايين، وتطلب من أجل كل من يلجأ إليها، ويستغيث بها.

وخلال فترة صوم العذراء من 7 لـ22 أغسطس يتوافد ملايين من الأقباط والمسلمين على الكنائس التى على اسمها، ليلتمسون شفاعة تلك الشخصية الفريدة من نوعها، المنقذة من الشدائد على مر العصور، فقد كانت ومازالت تفرج كِّرب كل سائل أو متألم.

وزارت الدستور أحد أهم وأعرق كنائس العذراء فى مصر، وهى كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية، الشهيرة بـ"المغيثة" التى فاح رحيق عجائبها على الكثيرين منذ نشأتها فى القرن السادس الميلادى، والتى كانت قد مرت بها العائلة المقدسة فى رحلتها إلى مصر منذ ما يزيد عن 2000 عام، وظلت لـ14 عقد المقر البابوى الخامس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وهى تقع فى حارة الروم وتعانقها القاهرة الفاطمية بجوامعها ومبانيها العريقة.

"المُغيثة"تاريخ عريق:
تُعتبر "العذراء المُغيثة" من أشهر الكنائس الأثرية فى مصر، وتحتل مكانة فريدة فى تاريخ الكنيسة القبطية وفى قلوب الأقباط والمسلمين على حد سواء، وذلك لقُدسية البقعة التى بُنيت عليها، وللعجائب الباهرة التى صُنعت فى رحابها.

فقد ذكر الشيخ أبو المكارم فى كتابه الشهير، "تاريخ الكنائس والأديرة"، لعام 1209 ميلاديًا، أن العائلة المقدسة بعد أن شربت من بئر البلسان "البلسم" واستراحت تحت الشجرة المعروفة حتى اليوم بـ"شجرة مريم"، فى منطقة المطرية، مرت وهى فى طريقها إلى الفسطاط "مصر القديمة"، ببئر قديم فى البرية، وهى المنطقة التى شيدت فيها القاهرة الفاطمية بعد هذه الزيارة بحوالى ألف سنة فى القرن العاشر الميلادى.

وذكر المؤرخ أبو المكارم أيضًا أن: "لهذا البئر خاصية أنه ليست فى مجاريه أو أحواضه شيئًا من المسكار الذى ينبت فى جميع الحمامات"، وأن "كل من به مرض أو حُمّى أو غير ذلك إذا استحم من مائه بُرِئ وعوفى.

وفى هذا الموضع المقدس بالتحديد وفوق ذلك البئر، الذى تباركت مياهه، وتطهرت مجاريه، بمرور العائلة المقدسة، وهم هاربين من فلسطين إلى مصر، بنيت فى مطلع القرن السادس الميلادى كنيسة القديسة العذراء مريم، الشهيرة بـ"المغيثة"، وهو اللقب المدوَّن فى "القول الأبريزى للعلامة المقريزى" لعام 1441، ميلاديًا، حيث اشار لها بأنها "كنيسة تعرف بالمغيثة على اسم الست العذراء مريم بحارة الروم".

وحارة الروم هى إحدى الحارات المتفرعة لشارع المعز لدين الله، وهو الخليفة الفاطمى، الذى أوكل مهمة بناء عاصمته القاهرة لوزيره جوهر الصقلى فى عام 969 ميلاديًا، وقد سميت حارة الروم بهذا الاسم لأن الجنود الروم الصقليين التابعين لجوهر الصقلى كانوا قد سكنوا فيها.

وكانت الحارة فى أول الأمر خارج أسوار القاهرة الفاطمية بأبوابها الثمانية التى اندثرت جميعها، ثم لما تم إعادة بناء السور صارت حارة الروم تقع داخل حيز المدينة.

وروى للدستور، القمص انطونيوس جرجس حنا، راعى كنيسة العذراء المُغيثة وأقدم كهنتها حاليًا، وهو عضو اللجنة البابوية للأثار وترميم الكنائس القديمة منذ 43 عام، أن لكنيسة العذراء المُغيثة، مكانة هامة فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية حيث أنها ظلت مقرًا باباويًا لمدة 139 عام، منذ عام 1660 حتى 1799 ميلاديًا، فصارت كرسى بابوى لـ 7 بطاركة، بداية من البطريرك 102 إلى البطريرك 108.

وأشار القمص أنطونيوس، إلى أن فى عام 1046 ميلاديًا تم نقل المقر البابوى من الكنيسة المرقسية بالإسكندرية إلى كنيسة السيدة العذراء المعلقة وكنيسة القديس إبى سيفين الأثرية بمنطقة مصر القديمة، ثم إلى كنيسة العذراء بحارة زويلة فى عام 1320، ومنها إلى كنيسة العذراء المُغيثة.

وكشف القمص أنه يرجع لقب "المُغيثة"، إلى كون السيدة العذراء مريم ملجأ وعون وأغاثة لكل من يلجأ إليها، حتى أن جميع البطاركة منذ القرن الحادى عشر، اتخذوا من الكنيسة مقرًا لقداء خلواتهم الخاصة، ورفع صلواتهم إلى الله وقت المحن والتجارب.

وأضاف: أنه يقُال أن الناصر صلاح الدين الأيوبى، كان يتردد على هذه الكنيسة ليستغيث بالعذراء مريم قبل معاركه.

ولفت "حنا" أن الكنيسة قد تعرضت للعديد من الشدائد والضيقات على مر العصور، فقد هُدمت ثلاث مرات وحُرقت مرتين وأُغلقت لمدة 11 عامًا، وذلك فى أعقاب الاضطرابات والفتن التى سادت البلاد فى زمن خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمى، من عام 996 ل1020 ميلاديًا، وعصر السلطان محمد بن قلاوون من عام 1293 ل1340، وكان أخرها ما لحق بالكنيسة من حريق هائل، مما أدى إلى تهدمها فى أثناء دخول الحملة الفرنسية إلى مصر، فى عام 1799، لينتقل عقبها الكرسى البابوى إلى الكنيسة المرقسية بالأزبكية، ثم أحرقت مرة أخرى فى ليلة عيد القيامة عام 1807 ميلاديًا فى عهد محمد على باشا.

وأضاف القمص أنطونيوس: أن البناء الحالى للكنيسة يرجع إلى عام 1814 فى عهد محمد على باشا، الذى أمر ببناءها على الطراز البيزنطى بتشييد 12 قبة أعلاها على غرار أجيا صوفيا فى أسطمبول، وقلعة محمد على باشا، فى القاهرة.

سحر الموقع وجمال الكنيسة من الداخل:
فى بداية مدخل حارة الروم من جهة شارع المعز لدين الله الفاطمى، تجد نفسك وكأنك قد انتقلت بالزمن إلى العصور القديمة، فترى المنازل مزينة بالمشربيات الأرابيسك والحوائط العتيقة، ومن بينها الأزقة والرُدهات بمساراتها الملتوية، ومن حولها الأسبلة الأثرية ومقامات الأولياء، ومن أهم اثار حارة الروم منزل الشيخ الشبشيرى الأثرى، أحد شيوخ الأزهر الذى بناه فى نهاية القرن السابع عشر الميلادى، وكنيسة الروم المهجورة، التى كانت مقرًا لبطريركية الروم الأرثوذكس قبل أن ينتقل إلى الحمزاوى بشارع الأزهر، والتى تم شراءها مؤخرًا من قبل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

وفى أخر حارة الروم تقع كنيسة السيدة العذراء مريم المُغيثة، ويليها دير الأمير تادرس للراهبات.

وبدخولك للكنيسة من البوابة الخارجية تجد لافتتين احداهما باسم كنيسة العذراء المُغيثة، والأخرى باسم القديس مارجرجس، حيث توجد كنيستين صغيرتين ملحقتين بكنيسة العذراء وهما، كنيسة القديس مارجرجس وبها ثلاث مذابح، والأخرى كنيسة الأمير تادرس الشطبى وبها مذبحين.

وبتواجدك داخل صحن الكنيسة تشعر بهيبة وروعة وقُدسية المكان وكأنك فى متحف يحوى كنوزًا وأثارًا فريدة من نوعها حيث أنها تُعد من أقدم كنائس القاهرة عهدًا، وتتميز الكنيسة بأعمدتها وأكتافها الحجرية الضخمة، وإذا نظرت إلى فوق، ترى من الداخل الإثنتى عشر قُبة المشيدة أعلى السقف وبها فتحات ونوافذ لتوفير الإضاءة والتهوية المناسبة داخل الكنيسة، نظرًا لأنه لا توجد فتحات أو شبابيك جانبية بحوائط الكنيسة.

ويوجد بصحن الكنيسة أيضًا أمام الهيكل الأوسط صليب ضخم بالحجم الطبيعى، يرتكز على عوارض خشبية، ومزخرف بنقوش نباتية، ويحمل الصليب على وجهه الأمامى الذى يشاهده الناظرون إلى الهيكل أيقونة لصلب السيد المسيح، وعلى وجهه الخلفى أيقونة لقيامة السيد المسيح يشاهدها الخارجون من الهيكل، وكأن المتقدمين للتناول من الأسرار المقدسة وقت القداس الإلهى يُصلبون مع السيد المسيح ثم يقومون معه بحسب العقيدة المسيحية، ويوجد أسفل الصليب الكرسى البابوى، والمنبر بسلمه الخشبى الحلزونى.

وتضم الكنيسة ثلاثة مذابح الأول فى الهيكل الأوسط على اسم السيدة العذراء مريم المُغيثة، والثانى فى الهيكل البحرى "الشمالى" على باسم الشهيدة مارينا، والثالث فى الهيكل القبلى "الجنوبى" على اسم الأربع أحياء غير المتجسدين، المذكورين فى سفر الرؤيا.

وأمام الهيكل الأوسط يوجد حامل الأيقونات بديع الصُنع من الخشب ومُطعّم بالعاج والأبنوس، وقد تم صنعه فى عام 1800 بأسيوط، ونُقل إلى المُغيثة بعد حرقها فى عام 1807 ميلاديًا.

وتجد على حوائط الجناحين الشمالى والجنوبى حول صحن الكنيسة، أيقونات أثرية نادرة قام برسم الكثير منها الفنان أنسطاسى الرومى الذى يظهر توقيعه أعلى الأيقونات التى رسمها.

وفى الجهة الغربية للكنيسة توجد مقصورة فخمة كبيرة مثبت عليها ثلاث أيقونات، للقديسة العذراء مريم، فى الوسط وللشهيدة مارينا والملاك غبريال على الجانبين.

وخارج صحن الكنيسة يوجد عند المدخل بابًا يؤدى إلى مزار للشهيدة مارينا، وبداخله البئر القديم الذى شربت منه العائلة المقدسة، بالمزار ترى عدد من الكراسى المتحركة، والعكازات، التى تركها من كانوا يعانون من أمراض مختلفة وشفاهم الله بصلوات العذراء والشهيدة مارينا.

وترجع مكانة الشهيدة مارينا التى تحتلها فى هذه الكنيسة إلى وجود كفها الإيمن الذى لم يتحلل، ووصل من أنطاكية إلى مصر فى القرن الثالث عشر الميلادى وتم حفظه فى كنيسة العذراء المغيثة فى القرن الرابع عشر الميلادى. وتحتفل الكنيسة بعيد استشهاد الشهيدة مارينا فى 30 يوليو من كل عام ويعُرض كف الشهيدة على الاف الحضور للتبارك منه.

زاور ودعوات للمُغيثة:
وخلال زيارة الدستور للمُغيثة، كان هناك عدد من الزوار يقفون أمام أيقونة العذراء بداخل المزار ويرتلون لها: "السلام لك يا مريم يا أم الله القدوس، السلام لك يا مريم يا بكر بتول وعروس"، وأيضًا يرتلون لها: "يا سلام على العدرا، رائحتها عطرة، جاية من الناصرة بفرح ومسرة، يا سلام على العدرا"، وعدد أخر يكتبون وريقات تحمل الكثير من الأمنيات للعذراء، وآخرون كانوا يضيئون الشموع أمام أيقونتها بعيون تحمل الكثير من الطلبات إليها.

مسلمة تطعم الفقراء بسبب معجزة للعذراء معها:
وتقابلت الدستور مع عدد من الزوار أحباء العذراء، وقالت، احدى الزائرات المسلمات والتى تدعى فاطمة محمد، ذات ال 45 عامًا، خلال زياتها للدستور: "نحن جميعًا نبجل ستنا مريم، فالقرآن الكريم كما فى الإنجيل روى كيف إنها حبلت وولدت دون ان يلمسها رجل، وهى بكامل بتوليتها.
وأضافت فاطمة لـ"الدستور" أن سورة مريم بالقرآن هى السورة الوحيدة المسماه بأسم إمرأه، فهى خير نساء العالمين وفق ما ذكر فى سورة آل عمران بالقرآن.
وأشارت "فاطمة" أنا آتى هنا بشكل دائم لزيارة حبيبتى ستنا مريم، وخاصة لأنها قامت بعمل معجزة كبيرة معى، حيث اننى كنت لا أنجب أطفال لسنوات طويلة، حتى أن زوجى قرر أن يتزوج بأخرى لتنجب له أطفالًا، فانتابتنى الحصرة، وطلبت من جارتى المسيحية أن تصطحبنى معها لكنيسة للعذراء لأطلب منها أن يرزقنى الله بطفل لئلا يطلقنى زوجى، وبالفعل اصطحبتنى جارتى إلى هنا بداخل كنيسة العذراء المغيثة، ووقفت أمام صورتها أبكى بحرارة ما يقرب لساعة أتوسل إليها أن تطلب إلى الله من أجلى، وبالفعل عقب مرور شهرين فوجئت بالحمل أنا وزوجى، ورزقنا الله بهدية أسميناها "مريم"، مما جعلنى أقطع عهدًا مع ستنا مريم أن آتى إليها كل عام خلال فترة صومها، وأقوم باطعام عدد من المحتاجين على اسمها.

رجلٌ يصرخ للعذراء لشفاء طفله:
وكان هناك أمام حامل الأيقونات أب يحمل بين ذراعيه رضيعًا صغيرًا، وهو منهمر فى الدموع، فتراه تارة يأخذ ابنه أمام أيقونة العذراء يصلى إلى الله من أجله، وتاره يضع ابنه فوق أجساد القديسين، وتارة يسجد به أمام الهيكل الأوسط الذى يزينه سترًا بصورة السيدة العذراء مريم، ومرة اخرى يجلس على سلم المنبر الخشبى الحلزونى، رافعًا عينه لله صارخًا بصوت مسموع "عشان خاطر العدرا أشفى ابنى يارب". ولم تستطع الدستور التحدث مع هذا الرجل لما كان يمر به من ألم.

طالبة تتطوع لتنظيف كنائس العذراء حبًا لها:
وقالت مريم جرجس ذات ال 17 عامًا لـ"الدستور":"أتيت إلى الكنيسة لزيارة السيدة العذراء مريم لأننى أحبها وأشعر وكأنها أقرب الأصدقاء بالنسبة لى، واتمنى لو تصلى لى حتى أبدء العام الدراسى الجديد فى سبتمبر المقبل، بشغف للمذاكرة، حيث أننى فى الثانوية العامة وأتمنى أن أدخل كلية الطب لأصير طبيبة للفقراء، كل من يأتى إليه وهو فى حاجة لمساعدة ألبى احتياجه مثل السيدة العذراء التى تصلى أن يلبى الله طلبة ابنائه.

وأضافت: أزور الكنيسة بشكل دائم، وفى كل ضيقة أمر بها ألجأ للسيدة العذراء، ولى إيمان دائم أن صلواتها تساعدنى أن اجتاز التجربة بفرح، ومن شدة حبى للعذراء أذهب لكنيسة على اسم العذراء، أنا واصدقائى قبل فترة الأعياد لنقوم بالتطوع فى خدمة تنظيف الكنيسة، وغسل سجاجيدها، وتلميع أيقونتها، ومسح أرضيتها، وهذا يجعلنى أشعر ببركتها والفرح بفعل شيءٍ معها ولو بسيطًا".