رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تلحين القرآن.. الشيخ زكريا أحمد: طبّقت فكرتى على أداء الأذان فأصبح نداءً حقيقيًا إلى الصلاة

جريدة الدستور

مقال للكاتب الصحفى والشاعر عبدالقادر حميدة فى مجلة «الكواكب» نُشر بعد وفاة شيخ الملحنين زكريا أحمد فبراير ١٩٦١
ما كنت أحسب أن للموت طيوفًا ورؤى وأشباحًا.. وأن لبعض الناس عيونًا تلمح هذه الطيوف والرؤى والأشباح.. حتى حدثنى زكريا أحمد عن الموت، فآمنت بأن الإلهام نفسه الذى يرف على إحساس الشاعر والكاتب والموسيقى فينضح قصيدة وقصة ولحنًا.. آمنت بأن هذا الإلهام نفسه يشف ذات يوم، فيلتقط الفنان من ورائه نهاية الحياة.. ويصبح يقينًا لديه أن الموت يقترب من أنفاسه. لقد حدثنى زكريا أحمد عن الموت، حدثنى عنه عندما التقيت به لأول مرة منذ خمسة أعوام، وخلال الأعوام الخمسة كنت ألتقى به فيتحدث فى كل شىء.. ولا ينسى أبدًا أن يذكر الموت مقرونًا بخريف الأعوام الستين التى تثقل قدميه بالروماتيزم.. ودمه بالسكر.. وصدره بالذبحة، ورغم إحساسه الواثق من اقتراب النهاية.. كان يتحدث عن الموت عابرًا ودون خوف أو وجل، كأنه شىء مفروغ منه.. ثم يمضى فى حديثه كأن الحياة تريد أن تنهل منه آخر أنغام الحياة.
كنت أجلس إليه ذات مرة فى مقهى البسفور بباب الحديد، حين دخل علينا المقرئ الشيخ سيد ندا.. وتحامل زكريا أحمد على قدميه ناهضًا ليصافحه.. لكن الشيخ سيد أشفق عليه من النهوض، فأسرع نحوه ليستبقيه جالسًا، وصافحه ثم قبَّل يده قائلًا:
- إزيك يا أستاذنا العظيم ربنا يطوّل فى عمرك.
وتطلع إليه زكريا أحمد مبتسمًا.. ثم قال له بصوت لاهث مبحوح:
هذه دعوة فى محلها يا شيخ سيد.. ولكن هل تظن؟
وأطرق الشيخ سيد برأسه وكأنما كَبُرَ عليه أن يكذّب إحساس زكريا أحمد بالموت!
ومرة أخرى كنت أزوره فى البيت.. وكنت ألاحظ أنه يتعمد الإنصات لحديث أبنائه وبناته.. أى حديث، ولو كان خارجًا عن مضمون الحديث الذى يكون مندمجًا فيه، قلت له ليلتها:
إنك لست شيخًا للملحنين فقط.. وإنما أنت أب رائع أيضًا.
قال وهو يعانق أبناءه جميعًا بنظرة حانية عطوف:
- ربما.. وربما أيضًا لأنهم لن يجدوا مخلوقًا يستمع إليهم بمثل هذه الشهية بعد أن أموت!
وهكذا كانت كلمة الموت تهوم فى أحاديثه.. ولا أقول إنه كان يتعمدها.. وإنما كانت تزحف من إحساسه بالموت رغمًا عنه.
ونحن حين نقترب من الستين أو نتجاوزها.. تستحيل حياتنا إلى ذكريات.. وتقفز إلى أذهاننا صور الصبا والشباب والأمل الذى كان منشودًا، لهذا كان زكريا أحمد فى الأيام الأخيرة يهفو إلى الحديث عن ذكرياته. قال لى والشهقة المريضة تقف فى حلقه بين لحظة وأخرى:
- أتدرى كيف خرجت من الأزهر؟ كان عمرى ١٣ سنة عندما ثرت على الأزهر، وخرجت منه إلى غير عودة.. لهذا قصة.. كنت «مجاورًا طبعًا حين دخل علينا الشيخ «تهته» حجرة الدرس، وراح يفسر لنا حديثًا يقول «من أكل منكم لحم جزور فليتوضأ». ووجدت كل لفظة فى الحديث مفهومة، عدا كلمة «جزور» فسألته عن معناها فقال: جزور يا ولد معناها «الجمل الصغير»، فقلت له: ولماذا يتوضأ الإنسان يا سيدنا الشيخ بعد أكل لحم «الجزور»، ولا يتوضأ بعد أكل لحم الجمل الكبير؟ قلتها من هنا.. وانهال علىَّ ضربًا من هنا.. أنت يا ولد تعترض على كلام الرسول؟ وهات يا ضرب وشتيمة إلى أن فقدت صبرى فلم أحتمل.. وسحبت من أمامى «مقلمة» من النحاس.. وسددتها إلى وجه سيدنا الشيخ فساح دمه. ويومها ذهبت إلى القسم مقبوضًا علىَّ.. ومن يومها لم أعد للأزهر.
وفى آخر لقاء لى بالشيخ زكريا أحمد قلت له:
- أعرف أنك ناديت بتلحين القرآن.. فما دفاعك عن الفكرة للذين لم يوافقوا عليها؟
- قال:
- الفكرة عظيمة جدًا.. وبودى لو يفهمها الناس، فيصبح لدينا عمل عظيم.
قلت له:
- معنى هذا أننا سنستمع إلى الشيخ «شعيشع» مثلًا وسط أوركسترا من العازفين والطبلجية والصاجات؟
فأجابنى وابتسامة وضيئة تَرْسُمُ على وجهه معنى التواضع.
- لا.. لا، أهو ده الفهم الغلط.. الناس فهموا الفكرة بالطريقة دى.. أنا ما قلتش كده.. أنا قلت يا ناس إن قراءة القرآن بالطريقة الراهنة خطأ. مفيش مقرئ بيوصل المعنى الجليل لأذهان المستمعين، واحد يقرأ آية قرآنية زى دى مثلًا (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم)، وهذه الآية تحمل معنى الأمر، والأمر يستوجب الحزم والأناة والحلم.
فإذا قرأها القارئ على هذا النحو «المطرب» نسينا المعانى فى زحمة الإعجاب بالطرب.. فضلًا عن تنافر الأداء مع المعنى الجليل.
وعندما ناديت بتلحين القرآن قصدت به الأداء نفسه، أى أننى أعيش فى جو الآية القرآنية، إذا كانت «تمنيًا» نضع معنى التمنى، وإن كانت «غفرانًا» نضع معنى الغفران. وإن كانت رهبة نؤديها بانفعالات الرهبة، وبهذا يصل معناها الواضح المجسم إلى المستمعين.. وتترك أثرها فى النفس، ويومها استطرد الشيح زكريا أحمد وهو يؤكد كلامه بإشارات وحركات لا تحتمل الشك:
- لقد طبقت فكرتى على أداء الأذان للصلاة.. فأصبح الأذان نداءً حقيقيًا إلى الصلاة.. لا غناءً وتطريبًا ولعلعة.. ولقد وافقنى الشيخ شلتوت على الفكرة.
وتوقف زكريا أحمد عن الحديث، دهمته كحة مخنوقة راحت تنطلق متتابعة فى قسوة من صدره وحلقه حتى احتقن وجهه بالدماء.. وازداد بروز عينيه كأنما ستقفزان من وجهه.. ثم هدأت نوبة السعال الحاد بعد حوالى خمس دقائق.. وامتدت يده نحوى تشير إلى رغبته فى الذهاب إلى البيت حالًا.. ولست أدرى حتى الآن.. هل كان خائفًا أن يفاجئه الموت بعيدًا عن أبنائه.. أم أنه كان مشفقًا على رواد مقهى البسفور من مواجهة حادث الموت، المهم أننا نهضنا.. والمهم أيضًا أنه رغم قسوة النوبة التى كادت تمزق صدره استطرد أثناء الطريق يحدثنى بحشرجة متقطعة عن موافقة الشيخ شلتوت، قال وقلبى يتمزق مع آلام صدره.
- منذ عامين كنت خارجًا من الإذاعة مع الأستاذ الشجاعى والشيخ شلتوت.. ويومها تناقشنا فى الموضوع وأفهمت الشيخ شلتوت وجهة نظرى، ويومها أيضًا أديت على مسامعه بعض الآيات بالطريقة السليمة الموصلة إلى معناها.. واقتنع الشيخ شلتوت بوجهة نظرى.
ووافق على الطريقة الجديدة فى الأداء، بل لقد وافق عليها من قبل المرحوم عبدالعزيز البشرى والشيخ عبدالوهاب حمودة.. وغيرهما من العلماء.
وكنا قد وصلنا البيت.. ومن عجب أن الحديث عن القرآن «جلا» صدره من الكحة.. واستطاع الشيخ زكريا أحمد أن ينسى كل آلامه ومتاعبه.. وأن يتذكر شيئًا واحدًا فقط حال وصولنا إلى بيته.
الدليل العملى على فكرته. وانطلق صوته فى هدوء وتعبير يرتل بعض آيات القرآن.. ثم سألنى:
- إيه رأيك؟
ولم أجب، كنت لحظتها غائبًا عن الأرض، سارحًا مع الجنة والولدان والحور العين: ومع هذا قلت له بعد لحظات:
- ولكن كيف تُهيئُ الناس لاستقبال هذه الفكرة قبل أن تقنعهم بها؟ ألا ترى أن مجهودك سيضيع؟
وقال محتجًا:
- العمل العظيم لا يضيع أى مجهود فيه، وعمومًا أنا أقوم بهذا العمل لنفسى ولوجه الله، فأنا كما ترانى أقترب من «النهاية».. أنتظر «الموت» بين يوم وآخر.
وقد خرجت من الدنيا كالشعرة من العجين.. لا ثروة عندى سوى هؤلاء- وأشار إلى أبنائه وبناته- ولا بد أن أترك لهم شيئًا يذكرون به أباهم كلما ذكره الناس. هذا الشىء هو تنفيذ فكرتى، وأرجو أن يفهمها كل الناس، أما لماذا لم يفهم بعض الناس وجهة نظـرى، وخصوصًا أولئك الذين اتهمونى بالجنون- فإنى أتمنى لو تتاح لى الصحة.. وأقابل الناس واحدًا واحدًا لأشرحها لهم.. وأقنعهم بها.
ويومها غادرت منزل الشيخ زكريا أحمد وأنا أتساءل: يقول الرجل إن أعظم أعماله سوف تكون فى تحقيق الفكرة التى يسعى بها نحو توصيل مضمون القرآن إلى أفهام الناس.. الرجل الذى لحن «٥٨» مسرحية و٣٦ فيلمًا، و١٦٢ طقطوقة، و٣٠ دورًا، و٢٥ قصيدة، و٦٥ توشيحًا و٣٠٠ منولوج وديالوج. هذا الرجل العظيم الذى أهدى إلى جيلين متعاقبين عبقريًا خالدًا كسيد درويش.. وصوتًا نادرًا كأم كلثوم.. هذا الرجل لا يعترف بكل هذا المجهود الجبار أمام الفكرة التى يسعى لتحقيقها.. لا بد أن ذلك عمل رائع فعلًا.. وعمل ضخم. وفى صبيحة الأربعاء الماضى.. دق جرس التليفون فى مكتب رئيس التحرير.. وكان المتحدث الأستاذ صالح جودت.. وسقطت السماعة من يد رئيس التحرير.. ثم أطرق برأسه وغمغم:
- مات زكريا أحمد!
- مات!!
وهتفت بى رغبة أن أنزل إلى الشارع.. أن أصافح وجوه الناس جميعًا.. أن أقول لهم كلهم:
- اسألوا أبناء الشيخ زكريا عن العمل العظيم.. اسألوهم عن الأشرطة المسجل عليها ١١٤ سورة للقرآن الكريم، اسألوهم.. واذكروا جهودهم يوم أن تنجح الفكرة.. ويفهم الناس معانى القرآن فيحفظونه فى البيت.. والشارع.. والدكان بالسرعة نفسها التى يحفظون بها الأغنيات وقصائد الشعر.
ولكن هل مات شيخ الملحنين؟! يؤسفنى أن أقول إن الفنان فى بلادنا يعيش ميتًا.. فإذا مات.. انتفض حيًا فوق ألسنتنا حديثًا من الذكريات.. والأسى.. ليس إلا!!