رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولي ومريد

ابن مشيش.. المُستغنى عن الناس


لعلكم تجدوننى أتمهل وأنا أحكى لكم عن سيدى «عبدالسلام بن مشيش»، صاحب الوجه الطيب البشوش، ففى الحقيقة اعترتنى الهيبة وأنا أكتب عنه، وداخلنى شعورٌ بالخشية من أن أطرق بابًا من أبواب حياته لا يحب هو أن أدخل له منه، كما أننى كنت حريصًا على أن أبتعد عن الصيغة النمطية لكتابة تراجم الأعلام، فأنا لست حجرًا صلدًا يكتب عن حياة حجرٍ صلدٍ لا حياة فيه، أنا أيها الأصدقاء لا أكتب لكم سيرة حياة هذا الرجل، ولكننى أعيش معكم فى حياته، فهذا هو عبدالسلام بن مشيش الكنز المخفى، والذى لم يعرفه أحد إلا عندما كتب عنه سيدى أبوالحسن الشاذلى.

ولد عبدالسلام بن مشيش صاحب الوجه الطيب فى منتصف القرن السادس الهجرى، فى قرية بنى عروس وهى إحدى القرى الجبلية فى ريف المغرب، ووفقًا للمؤرخين كان مولده عام ٥٥٩ هجرية، ويقول بعضهم إنه وُلد بعد ذلك بخمس سنوات، وما علينا أن يكون قد ولد فى عام أو فى آخر، المهم أنه وُلِدَ وجاء إلى الدنيا لأبٍ هو أحد العارفين الفقهاء اسمه سليمان، وسليمان هذا هو الذى اكتسب لقب ابن مشيش، أما جد سيدى عبدالسلام فهو أبوبكر، وقد كان هو الآخر أحد العارفين الكبار، وأصدقكم القول بأن العجب كان يتملكنى وأنا أدرس نسب سيدى عبدالسلام، لأننى كنت أجد النسابين يتجاوزون الأب سليمان وهم يحققون نسب الابن عبدالسلام، إلى أن عرفت أن الجد «أبوبكر» كان هو الأكثر شهرة، لذلك نسبه النسابون مباشرة لجده أبى بكر العلمى، ويصل نسب تلك العائلة المشيشية إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن طريق سبطه سيدنا الحسن بن السيدة فاطمة بنت رسول الله، وسيدنا على بن أبى طالب، رضى الله عنهم.
الآن نترك والده وجده ونسبه كله فى أمان الله، لنذهب إلى القرية التى ولد فيها شيخنا عبدالسلام، فمعرفة المكان تدلك على السكان، والمكان الذى ولد فيه هو قرية بنى عروس، وهى قرية جبلية كما أخبرتكم، ولكننى لم أحدثكم بعد عن جمال الطبيعة فى تلك القرية، فقد كان جمالًا يخلب الألباب ويُحيِّر العقول ويدغدغ الأفئدة ويحرك المشاعر، فالجبل الذى توجد فيه تلك القرية هو جبل تكسوه الخُضرة، ولك أن تتخيل ما الذى يحدث فى الشتاء، فالثلوج البيضاء الناصعة تتساقط من السماء فإذا باللون الأبيض يعانق الخضرة المبهجة، ليشكلا لوحة فنية فائقة الجمال، هذه بيئة لا تُخْرِج إلا الشعراء والأدباء والمتصوفين العابدين الأولياء، لأن الذى قُد قلبه من الصخر سيصبح كتلة من المشاعر الحية، وهو يحيا فى وسط هذا الجمال، فما بالكم بالذى خلق الله له قلبًا نابضًا بالحب والرحمة، هل تتصورون كيف يكون حاله؟!.
أما الأمر الآخر الذى تتميز به سكان قرية بنى عروس عن باقى القرى فهو أن أهلها قليلو الكلام، يستمعون إليك ويردون بأقل القليل من الكلام، وأظن أن الطبيعة الجمالية لتلك القرية جعلت أهلها يميلون إلى التأمل والتفكر، كما أنهم ينشغلون بالعمل، والعمل يُسكت الكلام، وفى سابق زمنى عندما أردت أن أتعرف أكثر وأكثر على سيدى عبدالسلام بن مشيش تمنيت أن أزور المغرب من أجل الذهاب إلى هذه القرية، ثم زيارة ذلك الولى القطب، وما كنت فى أمنياتى هذه إلا المريد الذى يريد أن يلتقى بوليِّه ويتعرف على قريته ليعرف من خلالها جانبًا من حياته، ولكننى عشت فى تلك القرية بمشاعرى ووثبات روحى، فكأننى حينها رأيت الشيخ وهو فى طفولته يجتهد ليحفظ القرآن حتى أتم حفظه بقراءاته السبع، وهو فى الثانية عشرة من عمره على يد أحد الأولياء المغمورين اسمه «الشيخ سليم بن أبى يوسف»، وها هو الطفل الصغير يشب عن الطوق، ويجتهد فى تحصيل المعارف الدينية، وكأننى أرى صباحة وجهه وصلاح حاله وهو يذهب إلى الجبل ليخلو للعبادة بعيدًا عن الناس، وقد كان هذا هو حاله منذ طفولته الباكرة، وأظنه فى رحلته الجبلية هذه كان يبحث عن الطريق إلى الله، ولكنه كان يعرف أنه لن يصل إلى هذا الطريق إلا إذا أخذ أحدُهم بيده، فقيَّض الله له أمرًا فتقابل مع أحد كبار الفقهاء الأولياء هو «سيدى أحمد الملقب بأقطران» الذى كان أحد علماء المذهب المالكى، وللمالكية وجودٌ قوى بالمغرب، ولكن ما تلقَّاه من هذا الشيخ الولى لم يكن كافيًا لنفس تتوق إلى معرفة الله والغوص فى بحر الحقيقة، فكانت فاتحة الطريق له أن سعى إلى مُعلم المعلمين، وشيخ المريدين، أبومدين شعيب الأنصارى، والذى عُرِف بأبى مدين الغوث سلطان الوارثين، وسيأتى الوقت الذى نكتب فيه عن هذا الشيخ «المُعلم» إلا أننا يجب أن نعرف أن بداية الطريق للطريقة الشاذلية إنما يبدأ من القطب عبدالقادر الجيلانى، ثم تلقاها منه أبومدين الغوث، ثم سيدى عبدالسلام بن مشيش، وصولًا لأبى الحسن الشاذلى الذى اشتهرت به الطريقة، ولكل واحد منهم قصة.
ها نحن قد عرفنا القرية التى ولد فيها شيخنا، وعرفنا شيوخه وسعيه فى البحث عن الطريق، وبداية غوصه فى بحر المعارف، ولكننا لم نعرف بعد الزمن الذى عاش فيه، لقد كان هذا الزمن مضطربًا، وكانت المغرب تناوشها الأنواء من كل جانب، حينها كانت تخضع لحكم الدولة الموحدية، وهم سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب العربى حينًا من الدهر، ولكن الفترة التى عاش فيها شيخنا كانت هى نهايات الدولة الموحدية، أما الصراعات الدينية فقد كانت قائمة على قدم وساق، وظهر فى تلك الآونة الدجالون والحواة الذين كانوا يسحرون أعين الناس، ولم يكن أمام ابن مشيش إلا الابتعاد عن الناس والاعتكاف بعيدًا عنهم، ولكنه لم يعتزل الناس، وفارق بين الاعتزال والابتعاد، وهو الذى ظلت أقوال شيخه أبومدين الغوث لا تفارقه أبدًا، ومن ذلك قوله: «ليس للقلب إلا وجهة واحدة متى توجه إليها حجب عن غيرها»، وقوله الآخر: «التقوى ألا تُعرف من الناس ولا تعرفهم»، كان هذا هو حال شيخنا ابن مشيش، فقد كان لا يريد أن يُعرف من الناس، حتى لا يلجأ إلا لله وحده.
فى تلك الرحلة لم يتوقف ابن مشيش عن العمل، وظل فلاحًا يزرع ويقلع ويسقى الزرع، ثم تزوج من ابنة عمه وأنجب منها الأبناء، والعجيب أنهم تأثروا جميعهم بأبيهم إلا أن أكثرهم تأثرًا كان ابنه محمد الذى أصبح واحدًا من الأولياء، وفى الثلث الأخير من حياة ابن مشيش اعتكف فى الجبل، عابدًا زاهدًا فى الحياة، لا يراه الناس إلا نادرًا، وفى إحدى هذه المرات النادرة تقابل معه فى إحدى مغارات الجبل سيدى أبوالحسن الشاذلى، وجرى بينهما ما رويته لكم، إلى أن انطلق الشاذلى ليحمل للعالم كله قصة هذا الكنز عبدالسلام بن مشيش، ولكنّ أمرًا من أهم الأمور وصل خبره لابن مشيش وهو فى خلوته الجبلية، فلم يستطع النوم، وقرر أن يترك الجبل وينزل إلى الناس فورًا، وسنعرف هذا الأمر الخطير فى الحلقة القادمة.