رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أثر إبليس


يخبرنا الروائى الروسى الكبير دستويفسكى أنه لا شىء أهون من شجب فاعل الشر ولا شىء أصعب من محاولة فهمه
ما الحد الفاصل بين الخير والشر؟ هل هذا الخط ثابت ومنيع أم أنه خط متحرك وغير حصين ومن الممكن عبوره؟ ما الذى يدفع بالناس إلى ارتكاب الشرور؟ ما الظروف التى تجعل الطيبين ينتقلون للضفة الأخرى ويصيرون أشرارًا؟
هذه التساؤلات ومحاولات الإجابة عنها بطرق علمية هى محور كتاب: The Lucifer Effect: Understanding How Good People Turn Evil «تأثير إبليس: كيف يتحول الطيبون إلى أشرار»، لعالم النفس الاجتماعى الأمريكى الشهير «فيليب زيمباردو» (٨٦ عامًا)، الأستاذ بجامعة ستانفورد، يسلط الكتاب الضوء على عدة تجارب نفسية شهيرة فى أدبيات علم النفس الاجتماعى، ويستدل بعدد كبير من الأحداث التاريخية.. منها: وقائع التعذيب والانتهاكات الجنسية التى قام بها جنود أمريكيون فى سجن أبوغريب بالعراق.
ويعلق «زيمباردو» على رد فعل الإدارة الأمريكية: «قالت قيادة الجيش مثلما تقول كل الإدارات عندما تكون هناك فضيحة: (لا تلقوا باللائمة علينا.. ليس الخطأ فى النظام.. ولكنه فى بضع تفاحات فاسدة)».
لكنه يفترض أن الجنود الأمريكيين هم فى الأصل أفراد صالحون، وأن الفساد ربما يكمن فى البرميل نفسه، ومن أجل إثبات أو نفى فرضيته أصبح شاهد خبرة لأحد ضباط سجن أبوغريب، وبعد شهور من الدراسة والتقصى توصل إلى أن: «البيئة هى التى خلقت أحداث أبوغريب نتيجة لتقصير القيادة، التى أسهمت فى حدوث مثل هذه الإساءات، كما أسهمت فى استمرارها دون اكتشافها من قِبَل السلطات العليا ولمدة طويلة من الزمن.. لقد استمرت هذه الإساءات لثلاثة أشهر.. من كان يراقب المتجر؟ الجواب هو: لا أحد، وأنا أعتقد، أن ذلك متعمد، لقد أعطى الحراس الإذن للقيام بهذه الأشياء، وقد كانوا يعلمون أن أحدًا لن ينزل إلى ذلك السرداب».
ويؤكد العالم الأمريكى: «إذا أعطيت الناس السلطة دون رقابة فإنها وصفة جاهزة للإساءة.. وتكمُن السُّلطة فى النظام.. النظامُ يخلق الظرفَ الذى يُفسد الأفراد، والنظام هو الخلفية القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية.. وهنا تقبع السلطة التى يمتلكها صانعو البراميل الفاسدة».
وعليه، إذا أردنا تغيير شخصٍ ما فعلينا تغيير الظرف، وإذا أردت تغيير الظرف، علينا أن نعرف أين تكمن السلطة ضمن النظام.. إذن فـ«تأثير إبليس» يتضمن فهم التحولات فى شخصية الإنسان فى ضوء هذه العوامل الثلاثة «الظرف، السلطة، النظام» والتفاعل الحيوى بينها.. ما الذى يضفيه الناس على الظرف؟ وما جوانب الشخصية التى تظهر منهم نتيجة للظرف؟ وما النظام الذى يخلق ذلك الظرف ويحافظ على استمراريته؟
ويتوصل «فيليب زيمباردو» إلى التعريف النفسى للشر، ويحدده بأن الشر هو: «ممارسة السلطة».
وهذا هو المفتاح: الأمر يتعلق بالسلطة.. لتعمد التسبب بالأذى النفسى للآخرين، لإيذاء الآخرين جسديًا، لتدمير حياة الآخرين، أو أفكارهم، ولارتكاب الجرائم ضد البشرية.
ويحدد الخطوات الاجتماعية السبع التى تهيئ المجال للانزلاق فى مزالق الشر وهى:
- القيام بالخطوة الأولى بغفلة دون تعقل النتائج.
- تجريد الآخرين من إنسانيتهم.
- تجريد الشخص من فرديته.
- تشتيت المسئولية الفردية.
- الطاعة العمياء للسلطة.
- الانصياع للعرف السائد دون سؤال.
- التسامح السلبى مع الشر من خلال التقاعس واللا مبالاة.
وهذا يحدث عندما يوضع الشخص فى ظرف جديد أو غير مألوف بالنسبة إليه، حيث تتعطل أنماط الاستجابة المعتادة، ويفقد الارتباط بشخصيته وقيمه العليا، «لا شىء أهون من شجب فاعل الشر، ولا شىء أصعب من محاولة فهمه»، كما يخبرنا دستويفسكى.
ورغم تركيز الكتاب على الشر، فإنه يحتفى بالعقل البشرى وقدرته اللا محدودة على جعل أى منّا لطيفًا أو قاسيًا، مراعيًا أو لا مباليًا، مبدعًا أو مدمرًا، ويجعل من بعضنا أنذالًا.
ويدعو الكاتب إلى مقاومة سلطة الأنظمة الشريرة فى كل المجتمعات، ولنقم بالتركيز على الإيجابيات.. لندعُ إلى احترام كرامة الفرد، والعدالة والسلام.. فالبحث الاجتماعى والنفسى يكشف لنا كيف يمكن أن يتحول أشخاص عاديون طيبون- دون الحاجة إلى مخدرات- إلى أشرار فقط من خلال العمليات الاجتماعية والنفسية.. فالخط الفاصل بين الخير والشر يمر عبر قلب كل إنسان.