رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هُشْ شْ شْ

جريدة الدستور

للصَّوت صوت آخر فى أذنى لا يفارقنى. أسمعه آتيًا من كل ركن فى الشّقة، منبعثًا من مرتبة السَّرير، معششًا تحت طلاء الجدران، متسربًا داخل مصباح النَّجفة، نائمًا فى أوانى الطَّعام، محبوسًا بين شحم أذنى- الذى تراكم بسبب عدم الغسيل من مدَّة طويلة – والطَّبلة. رُبَّما تكون حبسة الصَّوت بين الشَّحم والطَّبلة هى التى جعلتْ أذنى تظن- فى عُمْق الليل- أنَّ الصَّوت يتجول فى المنزل بعد أنْ ينام الجميع. ولكنِّى اكتشفتُ أنَّ الهَمْهَمة لورقة يلْطُمها الهواء. والخرابيش لفأر أو صرصور لعين. كلها (الورقة والفأر والصرصور) مارست خديعتى فى تجسيد الصَّوت كائنًا حيًا يتحرك. مع أنَّها- هى بالذات- نائمة بجانبى وشخيرها المرتفع يسرق رائحة الصَّوت.
سنوات خطبتى الشَّاحبة ضاع من ذاكرتى حسابها. ما أعرفه بالتحديد أنَّه من ٢٠٠٠ دقيقة تكرم أبواى- رضى الله عنهما- بتزويجى فى إحدى الغرف، فشقتنا: غرفتان يفصل بينهما جدار، وصالة تطل على الشَّارع. وزيادة فى الكرم والرِّضا تركا لى الشَّقة لأسبوع ناقص لم أخرج خلاله من البيت، فأنا عريس.. العالم أمامى بلا حدود. أعيش فى الصَّوت وبالصَّوت وللصَّوت. يبثُ تأثيره فى جسدى كله. تردُّداته تخترق مسام جلدى وتستقر تحته متمشِّية فى العروق، غارقة فى الدَّم. الضّحكة الملعلعة والآهة والصَّرخة حفرتْ بصماتها فى أعماقى. أحتضنُ جسدها. فتلمسنى شفتاها غارسة داخلى نصف اسمى (مد) وبل (أح) الرَّاقصة خارج جلدى يكتمل (أحمد). أصبح لاسمى طعم هارب من أُذُن أوديسيوس فى جزيرة السِّيريِّنات عندما تكرِّره- سماح- مرات عديدة: ممطوطًا ملحومًا عند الفجر. طلبتُ منها أصواتًا معينة. أعطنى كل التَّردُّدات. حفرتْ داخلى كتالوجًا مخصوصًا.
عندما جاء أبواى والزوار، بدأ تشويش يغزونى محاولًا فرض وجوده على خلاياى، مصارعًا الصَّوت تحت مسامى. ولكن «سلامات.. مبروك» كانت أكبر من مسامى، فلم تستطع الولوج «مع السلامة».
لم أنفرد بسماح طوال اليوم، كنت أتابعها وهى تقدم الشاى وقطع الحلوى، صوتها «شكرًا.. شكرًا» كصوتهم تمامًا. ليس له نفس بصمة الكتالوج. سرق الزُّوار جهاز الإرسال وحاولوا اغتصاب جهاز الاستقبال.
فى الليل: خرج صوتنا من نخاع الرُّكبة خائفًا. فإحساسنا: عميق بعدم الانفراد، والخوف من إصدار الصَّوت الملعلع بالضَّحكة والآهة. فللغرفة الملاصقة أربعة آذان تتسمع، رغمًا عنها، ولحكمة ما جعل الله الآذان بلا غطاء.. أربعة آذان كَلْبَشت أصواتنا وغطتْ أجسادنا بعرق بارد، ربطتنا فوق السَّرير. لمستُها بيدى متصنعًا العفويَّة. برودتها واجفة. كِدتُ أدور بأذنى على الحائط: متوهمًا فى الجهة الأخرى أذنين ملتصقتين بالجدار، تخترقانه وتدوران حول سريرنا. صوت كحكحة أبى المخلوط بمعسل سلوم حبس أنفاسنا. بدأتْ حركات التمويه: سكتنا تمامًا كأننا نمنا وانتظرنا نهاية الكحكحة.
عند الفجر: استيقظنا سويًا. ساعدنا الموت الحادث فى الغرفة المجاورة رغم صدور الحشرجات المشروخة على الاطمئنان الزَّائد بالانفراد. فى البداية كانت عمليات فك الشَّفرة صعبة، فجاء صوتنا خليطًا بين البحَّة والعُمق. شيئًا فشيئًا جاءت الموجات البدائية الأولى داخل جسدى المفتوح مُدَاعِبة ومُعاكسة ومستثيرة. أعادتنى لحالة افتقدتها ليوم كقرن. ارتفعتُ بشوق مع الصَّوت لمسافات عالية بعيدة. أمسكت سحابة. قبل أنْ أشبك اسمى فيها انسحبتْ الموجات من تحتى واختفتْ فجأة. تركتنى فوق، فى البعيد وحدى. ظللتُ أهوي، أهوي. سقط ُعلى كحكحة أبى المخلوط بمعسل سلوم ورفسَّة قدم عفيَّة من أمى فى قائم السَّرير الملاصق لجدارنا.