رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليبقى الوطن.. بمساجده وكنائسه


برزت الأحداث الطائفية للوجود في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي، بمعركة اندلعت بين مسلمين وأقباط في أخميم بأسيوط عام 1970، ثم توالت بعد ذلك أحداث الخانكة، الزاوية الحمراء، منفلوط، الكُشح، ومواجهات دامية عانت منها أسيوط لمدة أربعة سنوات، وكذلك وقعت أحداث مشابهة في كفر ديمانة بالشرقية.. وشهدت الأعوام الأخيرة مواجهات وصدامات بين مسلمين وأقباط في محافظتي المنيا وأسيوط، بسبب بناء كنائس، تدخل الأزهر والكنيسة لوقفها، وإنشاء ما عُرف بعد ذلك، بـ (بيت العائلة)، للحفاظ على النسيج الاجتماعي المصري.. ومع ذلك لم تُفلح الجهود المبذولة في احتواء هذه الفتن ومنع تكرارها، لأن أحدًا لم يتطرق إلى دراسة أسبابها، ووضع إستراتيجية عامة للتعامل معها على كافة المستويات، بما يدعم السلام المُجتمعي ويُرسي قواعد العيش المشترك في المجتمع المصري، حتى بات الملف الطائفي هو الأبرز والشائك، توظفه التنظيمات المتطرفة والإرهابية للمتاجرة به، واستغلاله ورقة ضد الدولة المصرية، حتى من جانب القوى المُعادية لزعزعة استقرار بلادنا.
وقد وضعت التنظيمات الإرهابية خطة منذ عام 2016، تُعرف بـ (خطة الإشعال الذاتي)، تتضمن شن عمليات عدائية ضد الأقباط وعلى الكنائس والأديرة، لتأليب الأقباط ضد النظام، وتفتيت تماسك المجتمع وإشعاله ذاتيًا، ومحاولة تفجيره من الداخل.. وقد جاءت تفجيرات الكنيسة البُطرسية بالقاهرة، والمُرقسية بالأسكندرية، وكنيسة طنطا، والهجوم على أتوبيسات الأقباط عند دير الأنبا صموئيل بالمنيا، تنفيذًا لجزءٍ من هذا المخطط.

كل ذلك لم يغب عن ذهن الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يحرص على تحقيق التماسك المجتمعي، ويضع نصب عينيه رغبته المُلحة في وأد مسببات الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، فحققت مصر، في عهده تقدمًا ملموسًا في مواجهة هذه الفتنة الخبيثة، وحاولت القضاء على بعض مسبباتها، فتم إقرار قانون بناء دور العبادة الموحد، وفي إطار تدعيمه للمواطنة المصرية، وجه خلال افتتاح مشروع (أهالينا) بمدينة السلام للقضاء على العشوائيات، بضرورة أن تضم كل مدينة جديدة كنيسة.. بل إن مصر تستعد لافتتاح أضخم مسجد وأكبر كنيسة في العاصمة الإدارية الجديدة.. كل ذلك وغيره، وسط تثمين من القيادات المسيحية لخطوات مصر والرئيس في سبيل تماسك المجتمع المصري وقوة اتحاد أبنائه، الأمر الذي يذكرنا بقول البابا تواضروس: (وطن بلا كنائس، خير من كنائس بلا وطن)، ولكن لابد أن يبقى لسان حالنا على قول: ليبقى الوطن، ولتبقى مساجده وكنائسه معًا.
وتأتي ذروة السنام، بقرار رئيس الجمهورية رقم (602) لسنة 2018، بتشكيل اللجنة العليا لمواجه الأحداث الطائفية، برئاسة مستشار الرئيس لشئون الأمن ومكافحة الإرهاب، وعضوية ممثلين عن هيئة عمليات القوات المسلحة والمخابرات الحربية والمخابرات العامة وهيئة الرقابة الإدارية والأمن الوطني، التي يحق لها أن تدعو لحضور اجتماعاتها من تراه من الوزراء أو ممثليهم، وممثلي الجهات المعنية، عند النظر في الموضوعات ذات الصلة بنطاق تكليفاتها، على أن تتولى هذه اللجنة مواجهة الأحداث الطائفية، ووضع إستراتيجية عامة لمنعها ومواجهتها، ومتابعة تنفيذها، وآليات التعامل معها حال وقوعها، وإعداد تقرير دوري بنتائج أعمالها وتوصياتها وآليات تنفيذها، يتم عرضه على رئيس الجمهورية.

وبالنظر في قرار الرئيس بتشكيل اللجنة، نلاحظ احتوائه على تطور نوعي، بوجود أجهزة المعلومات السيادية، مثل المخابرات العامة والعسكرية، ضمن تشكيلها، وهو ما يتيح منع المندسين ومثيري الفتنة من الوصول إلى مُبتغاهم، منذ البداية، بل وتحديد من يقف وراء كل أزمة من الأزمات لمحاسبته.. وتأتي مشاركة القوات المسلحة، ذراعًا طُولى لفرض السيطرة وردع من يهدد الأمن القومي المصري.. كذلك الصلاحيات العميقة لهذه اللجنة، بإسناد رئاستها إلى مستشار الرئيس لشئون الأمن ومكافحة الإرهاب، وهو الذي تولى من قبل، حقيبة الداخلية، وملفات التطرف والأمن، وله دور كبير في مواجهة الفتنة الطائفية.. ثم هذا التصعيد في مستوى اتخاذ القرار، وأعني بذلك، متابعة رئيس الدولة لهذا الملف الحيوي والمهم، من خلال التقرير الدوري عن أعمال اللجنة، والذي سيتلقاه الرئيس، متضمنًا ما تراه اللجنة من حلول وما تطرحه من توصيات، وذلك سيسهم في فاعلية وقوة عمل اللجنة، ويدعم قراراتها.

قرار الرئيس نزل بردًا وسلامًا على قلوب المحبين لهذا البلد، الحريصين على أمنه وسلامته، الغيورين على مكتسباته، وضرورة صونها من العبث، أولئك الذين يؤمنون بأن الواجب الوطني والشرعي، يحتم أن نسعى جميعًا لتحقيق الوئام والسلم المجتمعي، بين أطياف المجتمع المصري.. وهو ما عبر عنه مفتي مصر، د. شوقي علام، بأن تشكيل اللجنة خطوة مهمة في طريق تحقيق المواطنة الكاملة لكافة المصريين، وتدعم جهود تعزيز العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، بما ينعكس، بشكل كبير، على رقي البلاد وتقدمها، ورأى الأزهر أن كل المجتمع في سفينة واحدة، إن نجت نجونا جميعًا، وإن خُرِقت هلكنا جميعًا.. إن هذا القرار كان يجب أن يكون من عشرات السنين ولكن الأمور بخواتيمها، ومصر هي واحة الأمن والأمان وملاذ الخائفين، والله يقول ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾.. وأبدى بيان الطائفة الإنجيلية استعدادها التام للتعاون الكامل مع اللجنة، إيمانًا بأصالة دورها المجتمعي في إرساء قواعد العيش المشترك، بعد أن وصف البيان، قرار الرئيس السيسي بأنه (نقلة نوعية) على طريق المواطنة.

وبعد.. فغني عن القول بأن هناك خطوات سابقة على عمل اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية، تمهد لعملها وتصطف مع إجراءاتها، ويصب الإثنان في معين واحد، أولها: وضع إطار منهجي لما يجب أن يكون عليه الخطاب الديني، بدلًا من تركه مفهومًا عائمًا، يُفسره كلٌ كيف شاء.. هذا الخطاب الذي يجب أن تضطلع به مؤسسات عديدة، تبدأ من الأسرة، فالمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة، مرورًا بوزارة الثقافة وكل توابعها، وهيئات الصحافة والإعلام، وانتهاءً بدور الفن والكلمة، ثم يأتي الدور الأهم لهذه اللجنة، بوضعها تشريعات قوية تحمي نسيج المجتمع من التفتت والانقسام والاشتعال الذاتي، وضرورة التدخل بحسم وحزم، لمنع تكرار الأحداث الطائفية، خاصة في مناطق الصعيد، التي يقيم بها العدد الأكبر، من إخوتنا الأقباط، فالفتنة نائمة ملعون من أيقظها، وصحيح أن الرئيس انطلق في قراره من واقع مسئوليته، وأنه مسئول عن رعيته، وعلى الراعي أن يعمل ليل نهار على تحقيق آمال وطموحات أمته، ولا أعظم من هذه الأماني غير تحقيق الأمن والسلام والأخوة الإنسانية، فما خلقنا الله على اختلاف عقائدنا ومذاهبنا إلا لنتعارف ونتآلف ونتعاون فيما بيننا.. لكن يبقى الرئيس فردًا اجتهد، لكن التبعة تقع على الجميع، وتحقيق الأماني، محصلة لجهود الأمة بكاملها، وقد قالها من قبل، ولأكثر من مرة: (أنا لوحدي ما أقدرش أعمل حاجة.. لازم نكون كلنا).. فهل نفعل؟..حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.