رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"شارع الأزهر".. أيام الثراء وأكل لحوم البشر

جريدة الدستور

يمتد شارع الأزهر من ميدان العتبة إلى مشارف منطقة هضبة الدراسة، ومن فوق نهايته المرتفعة تبدو وتظهر منحنيات المقطم.

في نفس الليلة التي فتح فيها جوهر الصقلي مصر، بدأ دون قصد تخطيط شارع الأزهر بوضع أساس مدينة جديدة أو على الأصح أسس قصر حصين لاستقبال سيده القادم من المغرب بنسائه وأولاده وعبيده وجواهره المعز لدين الله الفاطمي الذي كان عسكر في الأراضي الممتدة من شمال شرق الفسطاط أو مصر القديمة حاليًا.

وضع جوهر الصقلي أسوار المدينة الجديدة أو القصر من ناحية الغرب مستغلًا عدم وجود مباني سوى دير قديم كان يسمى "دير العظام" وبقايا حديقة صغيرة بمقاييس هذه الأيام كانت تسمى "كافور"، ورغم ذلك فإن الدير وهذه الحديقة عاقا جوهر الصقلي في بداية الأمر عن تخطيط شارع الأزهر، وتنفيذ مدينته التي ستصبح بعد ذلك من أكبر مدن العالم.

وبعد أن أزيل الدير وبعض أطلال الحديقة وضع "جوهر" المدينة داخل مربع لم يكن يتجاوز ألفا ومئتي يارده ووقف عماله ينتظرون تلقى إشارة البدء لتشييد المدينة من المنجمين والسحرة المغاربة الذين كان الخليفة الفاطمي يثق بهم ثقة عمياء وبناء على نبؤاتهم خاض جميع حروبه وبنى إمبراطوريته الشاسعة، وكانت إشارة البدء هذه تتلخص في دق أجراس علقت لهذه المناسبة خصيصًا في حبل امتد بين أعمدة كانت تنتصب تقريبًا في المنطقة التي يقع حولها ميدان الأزهر في مواجهة الجامع العتيق.

لكن أمر ما حدث وأحرج السحرة والمنجمين، فبينما هم يتأهبون لإعطاء إشارة البدء، وقف غراب مارق على قمة أحد الأعمدة وكان سعيدًا وبدأ يهتز مستمتعًا وعلى الفور أخذت الأجراس تدق فقوة، ففهم العمال أن تلك إشارة السحرة التي انتظروها طويلًا واندفعت معاولهم لحفر الأرض، وكان صوتها صاخبًا، لدرجة أنها أخفت صراخ صوت جوهر ورجاله بأن تلك الإشارة كاذبة، وهكذا سمى المكان "القاهرة" نسبة إلى هذا الطالع غير السعيد أملًا في أن يتحول الفأل المشؤوم إلى نتيجة مظفرة والواقع أن ما تم فعلًا فقد خيبت القاهرة أوهام المنجمين وصارت على الأقل أيام الفاطميين أفخم مدن العالم، حسبما ذكر حمدي أبو جليل في كتابه "القاهرة شوارع وحكايات".

في مواجهة الأساس الملكي للقاهرة وهو قصر الخليفة وضع جوهر الصقلي الأساس الديني والعلمي والثقافي للمدينة وهو الجامع الأزهر، وبناه في نفس الرقعة التي صلى بها الخليفة الفاطمي لحظة وصوله يوم الأحد 3 أبريل 970م، وتم بناء الجامع في 24 يونيو 972م، وفي عام 988 قصده العلماء من كل جامعات العالم.

وقال المؤرخ "ستانلي لينبول": "كان لكل شعب رواق خاص به داخل الجامع، وكان الطلاب يتلقون الدروس فيه بالمجان على أيدي مختلف مشايخ الأزهر من كل فروع الثقافة العربية. وكان الطلاب يحصلون على قدر من الطعام ينفق عليه من المال الذي أوقفه الفاطميون لرعاية جامع الأزهر الذي كان يفتح أبوابه للفقراء دون تمييز للجنس أو اللغة أو الطبقة للتعليم".

أول من ارتاد الشارع بعد افتتاحه هو الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، دخله برفقة أولاده الأربعة في موكب كبير تحيط به كل قواته من كل جانب، يتقدمه اثنان من الفيله كانا من العجائب التي شهدها المصريون في تلك الفترة.

أحاط جوهر الصقلي الشارع بأسوار لتكون مقرًا حصينًا للخليفة الفاطمي ورجاله وعبيده وموظفيه وقواته ومنجميه من المغاربة بعيدًا عن صخب الشعب المصري، فلم يكن مسموحًا لعامة المصريين دخول الشارع والمناطق المجاورة بدون إذن أو تحت حاجة ملحة تخص للخليفة ذاته، وشمل ذلك سفراء الدول الأجنبية الذين كان عليهم أن يترجلوا ويحنوا رؤوسهم لكي يتمكنوا من دخول شارع الأزهر الذي كان في بدايته مخصصًا لتجول الأسرة المالكة.

ظل شارع الأزهر مظهرًا من مظاهر الثراء الفاحش والفخامة الاسطورية لمدة مائة عام تقريبًا، لكن بعد عام 1066 بدأ يشهد دورة الأيام وقسوتها بعدما سيطر الأتراك على الخلفاء الفاطميين فنهبوا القصور من التحف الفنية والأحجار الكريمة، واقتحموا المكتبات لم يكن لها نظير في العالم وكان مستقرها في الجامع الأزهر وعددها 100 ألف نسخة خطية نادرة، لدرجة أن أحد المؤرخين الإنجليز قال إنهم استخدموا تلك النسخ في إصلاح أحذيتهم وأشعلوا النيران في الباقي وأطاحوا به فوق أكوام القاذورات.

وفي المقابل وقعا صعيد ودلتا مصر تحت يد السودانيين والبرابرة من اتباع الخليفة الفاطمي، فانقطعت المؤن عن القاهرة وخصوصًا عن شارع الأزهر وبدأت المجاعة العظمى التي ظلت لمدة 7سنوات كاملة، وصفه أحد المؤرخين: "بلغ ثمن رغيف الخبز 8 جنهيات، وانحدر سعر المنزل الفخم إلى ربع مثقال من الدقيق وكانت النساء الفاتنات خصوصًا من الأسرة الفاطمية يلقين بمجوهراتهن الثمينة لقاء جزء ضئيل من الطعام، وبيعت الأحصنة والحمير والكلاب والقطط بأسعار عالية جدًا وكان الناس يأكلونها بشراهة، بل والأعجب من ذلك كان الناس يخطفون ويأكلون بعضهم البعض، وقيل أن القصابون كان يبيعون في شارع الأزهر وغيره من شوارع القاهرة الفاطمية اللحوم البشرية".

والخلفية الفاطمي، عطف عليه طلاب الأزهر وعلماؤه فكانوا يقدمون له رغيفًا من الخبر كل يوم لإبقائه على قيد الحياة، بعد أن هجره أولاده وزوجته إلى بغداد.

كان ذلك مهد لخراب وتدمير وانحسار الأضواء عن شارع الأزهر وجامعه.